Thursday, April 5, 2007

المدارس الإنسانية


مدرسة العلاج المتمركز حول العميل

تعتبر مدرسة العلاج المتمركز حول العميل Client-Centered Therapy أوضح مثال على المدارس الإنسانية في العلاج النفسي. يصف أحد الكتاب المسيحيين هذه المدرسة بأنه نوع من التطبيق الماهر للنعمة ـ ليست النعمة ككلمة ننطقها بسهولة ولا نعنيها وإنما كممارسة لعلاقة إنسانية عميقة من الفهم و القبول غير المشروط. تمتع هذه المدرسة بقدر كبير من التركيز على أهمية الاستماع العميق المتمعن للعميل و المحاولة الأمينة للدخول إلى عالمه الخاص.

الافتراضات الفلسفية

تؤكد هذه المدرسة بكل قوة على أن العميل هو مركز العملية المشورية وليس المعالج، حيث أنها تؤمن أن كل إنسان لديه القدرة الكامنة على التعامل مع مشكلاته واستخراج الموارد الكامنة في نفسه لإزالة الأسباب المعوقة لنمو الشخصي. العلاج المتمركز حول العميل يؤكد على أولوية الفرد في مقابل الجمود والعقائدية الموجودة سواء في الدين أو في المدارس النفسية الجامدة مثل التحليل النفسي الكلاسيكي. ربما كان هذا رد فعل لنشوء كارل روجرز، مؤسس هذه المدرسة في أسرة مسيحية أصولية.

تؤمن هذه المدرسة بعدد من القيم المحورية مثل:

1) لا يجب تجزئة الإنسان إلى مكونات مثل الفكر والمشاعر والإرادة والسلوك وغير ذلك، وإنما تجب دراسته ككل متكامل وشخصية فريدة.

2) ما يقوله العميل عن نفسه أكثر أهمية في العملية العلاجية من ملاحظات أو تحليلات المعالج.

3) حيث أن كل من العميل والمعالج مشتركان معاً في عملية مستمرة من تحقيق الذات، يجب عليهما، وبالذات المعالج أن يعمل على الدخول إلى الخبرة الذاتية للعميل ولنفسه في ذات الوقت.

4) لذلك فإن الحدس المباشر و التواصل الوجداني "المواجدة" يعتبران ، من منظور هذه المدرسة، من أهم الطرق للحصول على البصيرة والمعرفة

5) تعتبر أن أحلام وطموحات وأهداف وقيم العميل، تعتبر أكثر أهمية في تحديد سلوكه من خلفياته البيولوجية أو الثقافية أو الأسرية.

6) تركز هذه المدرسة على صفات محددة في الشخصية الإنسانية مثل القدرة على الاختيار والإبداع وتحقيق الذات.

7) تؤمن هذه المدرسة أن الأفراد لديهم القدرة على الاختيار الحر المسئول وليست سلوكياتهم مجرد رد فعل لعوامل بيولوجية أو مؤثرات مجتمعية.

تنبع أصول هذه المدرسة من الفلسفة الظاهراتية التطبيقية Applied Phenomenology التي وضعها أدموند هوسرل. هذه الفلسفة تؤكد على أن ما نكونه وما نفعله هو انعكاس لخبرتنا الذاتية لأنفسنا وللعالم. وأن الواقع الخارجي لا يمكن معرفته إلا من خلال الواقع الداخلي. لذلك تكاد تؤمن هذه المدرسة أن ما يشعر به العميل تجاه ما يحدث في حياته أهم من الحقيقة الموضوعية لما يحدث. لذلك كتب روجرز:

إنها الخبرة الذاتية التي يجب أن أعود إليها مرة ومرات: لكي أكتشف أصدق تعريف للحقيقة. فالحقيقة هي في عملية دائمة من التحقق في داخلي. لا الكتاب المقدس ولا الأنبياء ــ و لا فرويد ولا الأبحاث ــ لا الإعلان الإلهي ولا الإنساني يمكن أن يسبق خبرتي المباشرة." (روجرز 1961 ، ص 23، 24).

نموذج الشخصية

باعتبارها إحدى المدارس الإنسانية، فهذه المدرسة، لا ترى إلا قوة دافعة واحدة في البشرية وهي الميل إلى تحقيق الذات Self-actualization أي أن كل البشر لديهم ميل كامن داخلهم إلى تحقيق وتنمية إمكاناتهم إلى أقصى حد وبطريقة تؤكد وتحافظ على صحتهم واكتمالهم النفسي. لا يعني هذا بالضرورة الأنانية أو الانحصار في النفس، فمن الإمكانات الخاصة الكامنة في نفس الإنسان، إمكانية الحب والخروج خارج النفس للآخرين. هذه المدرسة تعتبر أن النرجسية والانحصار في النفس علامة على الفشل في تحقيق النفس.

تعتبر هذه المدرسة أن الرغبة في تحقيق النفس هي القوة الدافعة للسلوك، لكن التوجيه لهذه القوة يأتي مما يسمى عملية التقييم الذاتية Organismic valuing process و تؤمن هذه المدرسة أن عملية التقييم الذاتية هذه هي البوصلة التي لا تخيب لقيادة الاختيار والفعل الإنساني.

نموذج الصحة والمرض النفسي

بحسب هذه النظرية يولد الطفل بدافع قوي ونقي نحو تحقيق الذات، إلا أنه يحتاج إلى الحب والقبول من الوالدين حتى يستطيع أن يسمح لهذا الدافع بالتحرك لتحقيق ذته الفريدة. إذا نجح الوالدان في تقديم هذا القبول والاحترام غير المشروط لشخصية الطفل/ الطفلة الفريدة، يستطيع عندئذ الطفل أن ينمو وهو واعي ومحترم لخبرته الذاتية Self-experience ومنها يستطيع أن يصنع لنفسه مفهوماً مستقراً للذات Self-concept نابعاً من خبرته/ خبرتها الذاتية لنفسها دون أن يملي أحد عليه مفهوماً خارجياً لما يجب أن تكون عليه نفسها.

عندئذ ينمو الطفل وهو لا يريد أن يكون شخصاً آخر إلا نفسه وهكذا تتطابق ذاته المُثلى Ideal self مع مفهومهه الذاتي لنفسه

و لا تكون الذات المثلى التي يريد الوصول إليها مختلفة عما يعرفه ويختبره عن نفسه Self-experience and concept

الشخص الصحيح في نظر هذه المدرسة إذن هو الشخص الذي يثق تماماً في قدرة الذاتية على تقييم الخيارات والأفعال و لا ينتظر أي كيان تقييمي خارج عن النفس. بكلمات قليلة، الصحة النفسية في نظر هذه المدرسة تتلخص في احترام الخبرة الذاتية و القدرة على اختبار اللحظة الحاضرة و القبول الكامل للنفس و الالتزام الكامل بعملية مستمرة من النمو وتحقيق الذات.

أما المرض، في نظر هذه المدرسة فهو أن تكون ذات الإنسان معوقة بمفاهيم تفرض عليه من الخارج Ideal self فيظل يحاول أن يخلق أفكار ومشاعر وسلوكيات مصطنعة ليرضي هذا النموذج المثالي المفروض عليه من الخارج (من الآخرين)

عدم التوافق بين ما يشعر به داخلياً في خبرته الذاتية للعالم ولنفسه وبين ما هو مفروض عليه، يخلق ألماً نفسياً وهذا يشوش قدرته على التقييم الذاتي فيختار اختيارات غير متوافقة مع مفهومه لنفسه و في عكس اتجاه عملية تحقيق الذات. إذاً المرض في مفهوم هذه المدرسة هو عدم التوافق بين ما تختبره النفس داخلياً وما هو مفروض عليها خارجياً.

نموذج العلاج النفسي

يعمل العلاج على مساعدة العميل أن يستعيد ثقته المفقودة في قدرته الذاتية على التقييم و يتحرك للأمام في مسيرة تحقيقه لنفسه. الهدف الأساسي للمعالج (المشير) بحسب هذه المدرسة هو أن يوفر بيئة من الأمان والثقة تتيح للعميل أن يكون نفسه و يستعيد التوافق مع خبرته الذاتية وقدرته الذاتية على التقييم وقيادة مسيرته بنفسه نحو تحقيق الذات. يحقق المعالج هذه البيئة من خلال ثلاث مهارات أساسية:

1) الاشتراك في الوجدان أو "المواجدة" Empathy وهي تختلف عن التعاطف Sympathy .

2) الصدق والأصالة Congruence or genuineness، وهو قدرة المعالج أن يتواصل هو أيضاً مع خبرته الذاتية و ينطلق منها في تفاعله مع العميل وليس من مهاراته وتقنياته. هي قدرة المعالج أن يكون نفسه بالكامل وهو يتعامل مع العميل

3) القبول غير المشروط Unconditional positive regard أي قبول خبرة العميل ووصفه لها دون نقد أو تحليل أو فرض شيء عليه من الخارج سواء تعليم أو توبيخ أو أي محاولة للتأثير. حيث أن كل هذه الأمور من جانب المعالج من جهة نظر هذه المدرسة، تعكس عدم الاحترام لقدرة العميل على التقييم وحريته في الاختيار. كما أنها تشجع على اعتمادية العميل على المعالج مما يعطل من عملية نضوجه ووصوله إلى تحقيق ذاته الفريدة المستقلة.

الاشتراك في الوجدان (المواجدة)

الفرق بين المواجدة Emphathy والتعاطف Sympathy

يمكننا أن نصل لفهم الفرق من خلال الرجوع للأصل اليوناني لهذه الكلمات المركبة.

ما معنى التعاطف Sympathy ؟

كلمة شعور أو وجدان باللغة اليونانية هي Pathos والتي يأتي منها المقطع باللغة الإنجليزية pathy عندما تضاف إلى كلمة Pathos كلمة Son باليونانية أو Syn بالإنجليزية، والتي تعني " مع" فالكلمة الناتجة بالإنجليزية تكون: Sympathy أي " الشعور مع" يمكن أن نسمي ذلك " التعاطف"[1]

كيف يحدث التعاطف؟

عندما يواجه إنسان شعور إنسان آخر ويريد أن يشعر معه فإنه يضع نفسه مكانه أي يسأل نفسه: " ما ذا كنت سأشعر لو كنت أنا في مكانه؟" وغالباً ما سيأتي الشعور من الإطار المرجعي للإنسان الذي يريد أن يتعاطف مع إنسان آخر.



المساعد طالب المساعدة "العميل"

المساعد هنا يسأل نفسه: " ماذا كنت سأشعر أنا لو حدث لي مثل هذا الحدث. وغالباً ما سوف يفهم شعور طالب المساعدة من الإطار المرجعي لنفسه هو (أي المساعد)، على سبيل المثال إذا كان هذا الحدث هو فقدان وظيفة مثلاً. الشعور الذي يشعر به طالب المساعدة بسبب فقدانه الوظيفة يتناسب مع حجم الوظيفة بالنسبة له و أهميتها في عالمه هو الخاص. فربما كان مرتب هذه الوظيفة هو الإيراد الوحيد بالنسبة له الذي ينفق منه على ثلاثة أطفال وأم مريضة. لذلك فقدانه للوظيفة يعد "دمار" بالنسبة له. أما المساعد مثلاً فربما تكون الوظيفة في حياته لا تشكل كل هذه القيمة و بالتالي فإنه ما قد يشعر به في مثل هذا الموقف يختلف. ربما يشعر بالخسارة وإنما ليس بالدمار. وبالتالي فإنه لا يقدر شعور طالب المساعدة بالدمار، وهكذا فإنه لا يقدر تعبير طالب المساعدة عن شعوره بالدمار! هذا لأن المساعد لم يبذل المجهود الكافي ليسأل طالب المساعدة ويسمح له بالتعبير حتى يدخل إلى عالمه ويرى تفاصيل الصورة الكاملة لحجم العمل في حياته.

ما معنى المواجدة؟ Empathy

عندما تضاف إلى كلمة Pathos كلمة En والتي تعني " في " فالكلمة الناتجة تكون Empathy أي

" الشعور في " وهذه هي المواجدة. بمعنى الدخول إلى عالم الشخص الآخر ورؤية الحدث والشعور من منظوره هو.



المساعد طالب المساعدة

في هذه الحالة يخرج المساعد من عالمه (ليس خروجاً تاماً كما أشرنا) لكي يحاول أن يدخل إلى عالم طالب المساعدة ويتوحد به حتى يستطيع أن يقدر هذه المشاعر التي تحدث. هذا شبيه بما يحدث في الأفلام السينيمائية. الفيلم الجيد يجعل المشاهد يخرج من إطاره المرجعي وينسى نفسه وحياته ويعيش في الفيلم ويرى الأبطال ليس من إطاره هو المرجعي وإنما من إطار الفيلم. فيحزن لوفاة البطل أو يغضب لما يحدث له أو يخاف عليه ويكاد يدخل إلى الشاشة ليحذره من مؤامرة تُدَبَّر ضده. في حالة الفيلم السينمائي الأمر متوقف على مهارة المخرج و دقة استخدامه للغة السينمائية ، أما في المساعدة النفسية فهذه المهارة يجب أن تكون لدى المساعد (الذي هو بمثابة المتفرج في مثال الفيلم السينمائي). المساعد الجيد يحول كلام طالب المساعدة إلى فيلمٍ، يدخل هو فيه ويرى أبطاله ويتوحد بقصته ويفهم مشاعر هؤلاء الأبطال و بالذات طالب المساعدة. ما هي هذه المهارة وكيف يتم التدريب عليها؟ أو بكلمات أخرى ، ماذا يجب أن يفعل المساعد حتى يستطيع أن يدخل إلى عالم طالب المساعدة؟ كيف يرى حجم "الوظيفة" مثلاً في حياته ذلك الشخص الذي فقد وظيفته؟

للدخول إلى عالم طالب المساعدة ، هناك مهارتان أساسيتان:

1) الأسئلة مفتوحة النهاية؟

( كلمني أكتر عن.... إيه إحساسك تجاه...... إنت خايف من إيه؟ ده معناه إيه بالنسبة لك؟ تتوقع إيه؟) هذا يجعل المساعد يحصل على "مادة" تمكنه من "إخراج" الفيلم الذي سوف يدخل فيه. ربما يحتاج المساعد أن يسأل عن شكل البيت وعدد غرفه وكيف كان ترتيب النوم. أيضاً من المهم أن يسأل عن المراحل العمرية التي حدثت فيها الأحداث ليرسم صوراً ذهنية عن الأبطال. أيضاً من المهم جداً السؤال: " ماذا كنت تشعر وقتها؟ " لأن طالب المساعدة ربما لا يهتم كثيراً برصد مشاعره وينصرف إلى رصد الأحداث.

2) الاستماع الانعكاسي "المتمعّن"

أي إعادة صياغة ما قاله طالب المساعدة بعبارات من عند المساعد. بدون استفهام أو اعتراض أو أي

نوع من أنواع الحكم على ما يقال أو تقييمه. فقط توصيل رسالة: " إني أفهم ما تمر به".

مثال

طالب المساعدة : سقطت في امتحان الكورس اللي كنت باخده تبع الشغل، و غالباً حاترفد. و خطيبتي لما عرفت بتفكر تفك خطوبتها مني.

المساعد: انت حاسس بإيه في كل ده؟

طالب المساعدة : مش عارف، مش قادر أحسّ زي ما يكون إحساسي منمّل. مش عارف أحسّ بإيه واعمل إيه؟

المساعد: من كتر مانت مصدوم مش عارف تحس بإيه.

طالب المساعدة: غالباً..

المساعد: زي ما يكون كل حاجة بتنهار مرّة واحدة.

طالب المساعدة: كل حاجة بتنهار وأنا مش عارف أعمل إيه وأفكر في إيه ولا في أيه.

المساعد: مش عارف تهتم بخطيبتك ولا الشغل ولا تسيب كل حاجة..

طالب المساعدة: و مش عارف أنا اللي غلطان وكسلان فالوم نفسي ولا ألوم الشغل ولا ألوم خطيبتي.

المساعد: محتار.. (لاحظ عدم وجود علامة استفهام أو تعجب).

طالب المساعدة: محتار جداً .. وخايف كمان..

المساعد: خايف.. (لاحظ عدم وجود علامة استفهام أو تعجب).

طالب المساعدة: آه.. خايف آخد قرار يطلع غلط.

المساعد: خايف تتسرع وما تقدرش الأمور صح (لاحظ عدم وجود علامة استفهام أو تعجب).

طالب المساعدة: آه لأني حاسس إني مش عارف أركز وأنا مصدوم ، مش قادر أفكر..

هذا المستوى من المواجدة والذي يتمشى مع المرحلة الأولى يعني ببساطة أن المساعد ينقل للعميل أنه يفهم ويدرك

· المشاعر

· الخبرة التي وراء المشاعر (ما يمر به)

والتي يعلنها طالب المساعدة صراحة وبشكل واضح ــ بمعنى أن المساعد ينقل رسالة " أنا فاهم كويس وحاسس باللي أنت بتقوله" لا يحاول فيه المساعد أن "يحفر" وراء ما يقوله طالب المساعدة أو" يستنبط" من كلامه أي شيء أعمق مما يقوله صراحة (هذا هو المستوى الأول من المواجدة)

الهدف من هذا المستوى من المواجدة

1) عندما يضاف إلى الأصالة والاحترام فهو يؤسس التواصل والعلاقة وبالتالي الثقة والانفتاح.

2) يزيد من مقدار رؤية طالب المساعدة لنفسه حيث يعمل المساعد عمل المرآة التي تريه نفسه وتشجعه أن يرى أكثر. الحكم والإدانة التي نتوقعها تخيفنا وتجعلنا لا نسمح لأنفسنا بقبول المشاعر وبالتالي إخراجها كلها. عندما يجد طالب المساعدة أن المساعد لا يحكم على أي شيء يقوله فإن هذا يشجعه أن يستكشف أعماق خبرته الوجدانية.

المواجدة السليمة (المستوى المتقدم) Accurate Empathy (Secondary Level)

أن ينقل المساعد للعميل أنه لا يفهم فقط ما يعلنه من خبرات ومشاعر ولكن أيضاً المشاعر الأبعد من ذلك والتي تظهر بين السطور. لكن إذا استخدمنا هذا المستوى مبكراً في العملية المشورية ربما يخيف طالب المساعدة أو يجعله ينكر ما يقوله المساعد حتى وإن كان في قرارة نفسه يعرف أنه صحيح.

مثال : فيه حاجات انتي ما قلتيهاش هي السبب الحقيقي في رفضك للجواز ، انتي خايفة جوازك يبقى زي جواز والدك و والدتك، مش لأن العريس مش عاجبك. (و سوف نشرح هذا المستوى من المواجدة في المرحلة الثانية).

المهارة الثانية: الصدق و الأصالة

هنا لا نقصد الصدق والأصالة من المنظور الأخلاقي أو الميتافيزيقي وإنما من المنظور السلوكي الذي يمكن نقله للعميل. أي مهارة نقل الصدق والأصالة للعميل. فيما يلي ما كتبه روجرز وترواكس عن هذا المنظور من الصدق والأصالة

" فيما يتعلق بالعلاج فإن الأصالة و الإتساق هي أن يكون المعالج نفسه خلال لقاءه بالعميل. أي بدون قناع أو واجهة غير حقيقية بل يكون بالفعل ما بداخله من مشاعر ومواقف وتوجهات. وهذا يتضمن عنصر الوعي بالذات (أي أن المساعد يكون قادراً على الدخول إلى عالمه هو الشخصي) و هذا يعني أنه يلتقي بطالب المساعدة لقاء شخصي مباشر بأن يكون نفسه ولا ينكر نفسه مطلقاً. الشخص الحقيقي الأصيل هو الشخص الذي لا يتغير عندما يكون في مواقف مختلفة."

السلوكيات التي تنقل موقف الصدق والأصالة:

1) التلقائية و عدم الاحتماء في الدور المهني

المساعد الحقيقي لا يحتمي في كونه مشير أو مساعد بمعنى أنه:

- يعبِّر مباشرة للآخر عما يشعر به في الوقت الحالي ، بشرط أن يكون هذا مفيداً لطالب المساعدة.

- يتواصل دون تشويه لما يشعر به. قد يؤجل التعبير عن شعور ما لمصلحة طالب المساعدة لكن لا يقول

عكسه.

- يستمع للآخرين دون أن يشوه رسائلهم، أي لا يحاول أن يسقط عليها مواقفه هو و مبادئه الشخصية.

- يكون تلقائياً وحراً في التواصل مع الآخرين دون أن يستخدم "كليشيهات" معدة مسبقاً.

- يتجاوب بصورة تلقائية ومباشرة مع احتياج الآخر.

- يظهر ببساطة مناطق ضعفه وتعرضه والمحتوى الحقيقي لحياته الداخلية ولكن بالقدر و في الوقت

الذي يساعد الآخرين.

- يعيش ويتواصل في "هنا والآن". أي يعيش اللحظة الحاضرة بما يحدث فيها ولا ينشغل بما ينبغي أن

يحدث.

- يسعى للوصول مع طالب المساعدة إلى حالة من الاعتماد المتبادل وليس الاعتمادية أو الاستقلالية

المرضية. (الاعتماد الصحي يراعي الاحتياجات الواقعية والقدرات الواقعية لتسديدها دون تخيل أوهام

سحرية أو طفلية من الاحتواء التام أو التواجد المستمر. كما أنه يهدف إلى تحقيق التوازن الصحي بين

الاحتياج للآخرين والاعتماد على النفس).

- يعرف كيف يستمتع بالقرب النفسي و مستعد أن يلتزم بالآخرين.

هذا لا يعني أن علاقة المساعدة تصبح حرة وتلقائية للدرجة التي تجعلها بلا هدف وبلا حدود فهذا أيضاً مضر ولكن المقصود ألا يحتمي المساعد بدوره المهني ليختبئ وراءه فلا يكون إنساناً في العلاقة المشورية.

النقد المسيحي

الافتراضات الفلسفية

تتفق هذه المدرسة مع المسيحية في الإصرار على رؤية الإنسان بصورة متكاملة غير تصغيرية، وفي تقدير أن هناك طرق أخرى للمعرفة غير المعرفة العقلانية و كذا احترام ذاتية وفردية الإنسان ومسئوليته أن يتخذ قرارات حرة و مبدعة، تدفعه نحو التغيير والنمو، إلا أن هذه المدرسة تثير عدة محاذير بالنسبة للمشير المسيحي مثل:

أولاً: تفترض هذه المدرسة أن لدينا القدرة أن نكون المتحكمين في مقدراتنا بكل أمان وثقة. أي أن هذه المدرسة ترى أن الإنسان هو الذي يحتل مركز الوجود وليس الله. من الواضح أن هذه المدرسة تتجاهل تماماً عقيدتين مسيحيتين أساسيتين وهما:

- عقيدة الخلق. أننا مخلوقون و لسنا آلهة. أي أننا لا نستطيع أن نوجد وجوداً ذاتياً معتمداً على نفسه فقط، وإنما وجودنا معتمد على الله ولن نوجد بطريقة سليمة وصحيحة إلا في إطار علاقة بالله.

- عقيدة الخطية والسقوط . بالطبع نحن مطالبون مسيحياً بتحقيق ذواتنا لكننا أيضاً مطالبون أن نواجه حقيقة وجود الشر في العالم وفينا نحن أيضاً.

لذلك من الممكن أن تتحول تلك الثقة الكاملة في التقييم الذاتي إلى أنانية مفرطة واستجابة بلا حدود للرغبات والغرائز الدنيا بدلاً من تحقيق الذات المتكاملة والمتوافقة مع المجتمع.

ثانياً: لا تؤمن هذه المدرسة بأي مصدر للمعرفة إلا المعرفة الذاتية أو الخبرة الشخصية. هذا يعني أنها لا تضع وزناً للإعلان الألهي. و هذه نتيجة طبيعية لعدم إيمانها بعقيدة الخطية والفساد، فاحتياجنا للإعلان الإلهي نابع من حقيقة فسادنا الذي يمنعنا من معرفة الحقيقة الكاملة بمفردنا، وخصوصاً فيما يتعلق بالأمور الروحية كطبيعة الله و الخلاص والعلاقة الروحية بالله. كما أن هذه المدرسة تتجاهل أيضاً دور المجتمع في المعرفة. تؤمن المسيحية أننا نحتاج للإعلان الإلهي المباشر كما تؤمن أيضاً بدور الكنيسة كمجتمع قادر بنعمة الله على التمييز والحكم بصفته "جسد المسيح"

يكاد يفترض روجرز وتفترض هذه المدرسة أن الإنسان ، من خلال عملية تحقيق الذات، قادر أن "يلد نفسه ولادة ثانية" بينما تصر المسيحية على أننا لا نستطيع أن نفعل ذلك بل نحن "مولودين ثانية بكلمة الله الحية الباقية" (1بط 1: 23)

نموذج الشخصية

توجد بعض العناصر في نموذج الشخصية بحسب هذه المدرسة التي من الممكن أن يرحب المسيحيون بها و هي إصرارها على أن النمو عملية مستمرة. كما أننا كمسيحيين نستطيع أن نتفق مع روجرز أننا ما نزال في مسيرة مستمرة لمعرفة ذواتنا الحقيقية.

ولكننا نؤمن أن ذاتنا الحقيقية هذه هي في صورة الله التي خلقنا عليها ونحن لا نستطيع أن نحصل عليها إلا بالعودة إلى علاقة سليمة مع الله بيسوع المسيح و الحياة في ملكوت الله.

لم يرفض المسيح أن يحاول أن يجد الإنسان ذاته ولكنه أشار إلينا كيف يمكن لكل منا أن يجد ذاته حيث قال: "فان من اراد ان يخلّص نفسه يهلكها.ومن يهلك نفسه من اجلي يجدها." (متى 16: 25) من منظور اللاهوت المسيحي، لكي يجد الإنسان ذاته يجب أن يكون مستعداً أن يواجه حقيقة محدوديته ومخلوقيته أولاً، ثم خطيته وفساده ثانياً وبالتالي احتياجه للخلاص والولادة الجديدة من الله عندئذ نحصل على ذواتنا الحقيقية التي خلقنا لكي نكونها.

أيضاً يجب أن يدرك المسيحي المؤمن أنه بسبب ميلنا للخطية والفساد، يجب أن يعيش في حالة اتزان بين الرغبة في تحقيق الذات Self-fulfilment وإطلاق الإمكانات وبين ضبط النفس والتدريب الروحي المستمر Self-discipline

هذا هو الصراع الحقيقي في وجهة نظر اللاهوت المسيحي. وليس الصراع بين الرغبة الذاتية في تحقيق الذات وبين ما يُفرَض عليها من الخارج.

أيضاً تركز هذه النظرية على الاحتياجات الشخصية للفرد متجاهلة إلى حد كبير التزامه بتسديد احتياجات الآخرين

نموذج الصحة والمرض

في واقع الأمر يجتذب نموذج الصحة لدى هذه المدرسة كل من يشتاقون إلى مسيحية أمينة غير دفاعية ربما من الأمانة أن نقول أن كثير من المسيحيين يتميزون بالمبالغة في العقلانية و كثيرهم لا يحترم المشاعر الإنسانية و يتشكك فيها أكثر من اللازم. كما أننا كمسيحيين كثيراً ما نمارس دفاعية عقيمة ونرتدي أقنعة جميلة من البر والتقوى والفرح الروحي المصطنع ونحب أن نظهر بمظهر العمالقة الروحيين منكرين ضعفنا وصراعنا. لذلك فلا عجب أنه في مجتمعاتنا المسيحية، من تصادفه مشكلات إما خارجية أو داخلية، فإنه يشعر بالوحدة والاغتراب بين هؤلاء الأبطال الذين " مع البشر لا يُصابون" هذا المجتمع المسيحي بعيد كل البعد عن ثقافة الكتاب المقدس المليئة بالاعتراف الأمين بالضعف والاحتياج الصراع. ربما كان هذا هو المجتمع المسيحي غير الكتابي الذي نشأ فيه كارل روجرز وجعله يكفر بالمسيحية !

· لذلك فمن الإيجابيات العظيمة للعلاج النفسي المتمركز حول العميل هو تأكيده على الاعتراف بالمشاعر والوعي بها.

· أيضاً من إنجازات هذه المدرسة تأكيدها على الكيان الفردي المستقل، ولكنها جعلت من تحقيق ذلك الكيان الفردي المستقل هدفاً في حد ذاته، بينما تصر المسيحية على أن الكيان الفردي الحر هو فقط وسيلة لتحقيق النضوج والاكتمال المسيحي.

- 1كورنثوس 7: 21 " دعيت وانت عبد فلا يهمك.بل وان استطعت ان تصير حرا فاستعملها بالحري."

- 1 كورنثوس 9: 1 " ألست انا رسولا.ألست انا حرا.أما رأيت يسوع المسيح ربنا.ألستم انتم عملي في الرب."

- 1 كورنثوس 9: 19 "فاني اذ كنت حرا من الجميع استعبدت نفسي للجميع لاربح الاكثرين."

- غلاطية 5: 13" فانكم انما دعيتم للحرية ايها الاخوة.غير انه لا تصيّروا الحرية فرصة للجسد بل بالمحبة اخدموا

بعضكم بعضا."

· ومن إنجازات هذه المدرسة، التأكيد على اللحظة الحاضرة والاختبارات الطازجة المباشرة التي يختبرها الإنسان الفرد، إلا أنها بالغت في ذلك وجعلت من الإنسان كياناً بلا ماضي وبلا التزام بأي سلطة خارجية أو احتياج للاعتماد على أي شيء أو شخص خارجه، وبدون أي التزام حاسم بالحق الموضوعي المطلق. بينما تؤمن المسيحية أن الإنسان كيان له تاريخ ويجب أن

يخضع لسلطان الله وسلطان الكنيسة والمجتمع ويحتاج إلى علاقة مشبعة بالله وبالآخرين ويجب أن يلتزم بحقائق موضوعية

مطلقة.

· أخيراً ساهمت هذه المدرسة في كشف دوركراهية النفس في نشوء المرض والاضطراب. أما الكتاب المقدس فيوضح أن الحب المريض للنفس هو الذي يساهم بشكل أكبر في المرض والإعاقة. وربما يمكننا أن نقول أن جذور كراهية النفس تنبع من مطالبة النفس بأن تكون أكثر مما تستطيع أن تكون.

نموذج العلاج النفسي

لا يستطيع أحد أن ينكر الدور الذي لعبه ذلك المثلث العلاجي من المواجدة والصدق والقبول غير المشروط في نمو وتطوير برامج عديدة للمساعدة النفسية والرعوية خلال الأربعين سنة الماضية بصفتها مهارات بسيطة يمكن تعليمها لعدد كبير من غير المتخصصين.

في هذا النموذج العلاجي، يعتبر دور المعالج بمثابة العامل المساعد Catalyst أو الميسر Facilitator وليس المرشد أو المعلم أو الراعي. يمكن تلخيص هذا الدور العلاجي في كلمة واحدة وهي المحبة، حتى أن أحد الكتاب المسيحيين لخص هذه المهارات العلاجية الثلاثة في كلمة "أجابي" وهي المحبة غير المشروطة.

بالطبع يرحب اللاهوت المسيحي بتوجه علاجي مبني على المحبة والقبول، ولكن لا يمكن أن يقبل إلا أن يتزن هذا النوع من الحب مع نوع آخر وهو الحزم والمسئولية والمحاسبة. بطبيعة الحال نحن كالنبات نحتاج للماء والرعاية، لكننا نحتاج أيضاً إلى "التقليم" المستمر.

لعل قول الرسول بولس: " فإنه لم يبغض أحد جسده قط بي يقوته ويربيه كما الرب أيضاً الكنيسة" (أفسس 5: 29) يحمل هذا التوازن فالجسد يحتاج لأن نقوته ونسدد احتياجاته وأيضاً أن نربيه وندربه بالضغط عليه أحياناً. والكلمة اليونانية المستخدمة في "يربيه" هي نفس الكلمة المستخدمة عندما يتكلم عن تربية الأبناء : " بل ربوهم بتأديب الرب وإنذاره." (أف6: 4).


[1] ليست الكلمات: "تعاطف" أو "مواجدة" هي المهمة ولكن المفهوم. الفرق الجوهري هو بين "الشعور مع " و " الشعور في" الذي يفيد " الدخول" إلى وجدان الآخر .

المدارس المعرفية السلوكية




الافتراضات الفلسفية

تبنى هذه المدارس على عدة افتراضات فلسفية محورية وهي:

1) المادّية Materialism لا تؤمن هذه المدارس بما بوجود ما يسمى العقل أو النفس ككيان فوق مادي وإنما تعتبر التفكير عملية مادية بحتة تحدث في المخ Antimentalism

2) التصغيرية Reductionism : لا توجد شخصية ككل متكامل وإنما الإنسان ما هو إلا مجموعة من الأنماط السلوكية والمعرفية

3) الحتمية Determinism: بمعنى أنه لا وجود لأية اختيارات أخلاقية في السلوك. وصف أحدهم أن مشكلة الإدمان مثلاً ليست سوى عادة تكونت من خلال الارتباط الشرطي مثلما يحدث مع "كلب بافلوف" ولا يوجد أي مجال لأي اختيار مسئول.

نموذج الشخصية

أ. التناول المعرفي الاجتماعي Social Cognitive Approach (Mischel and Bandura)

بالنسبة لمدارس العلاج المعرفية السلوكية، فقط Mischel (1973) هو الذي قدَّم نظرية شبه متكاملة عن الشخصية تتلخص في خمسة عناصر تختلف من شخص لآخر:

1) طرق الاستقبال: الكيفية التي يستقبل بها الشخص المعلومات الفكرية والحسّية المختلفة (بصرية أو سمعية أو خلافه).

2) طرق التفسير: الطرق التي بها يفسر هذه المدخلات ويكون منها نسق معرفي متكامل ومن ثم يسلك تجاهها سلوكاً خاصاً.

3) تقييم المثيرات: القيمة التي يضعها الشخص للمثيرات المختلفة وبالتالي كم الدافعية الناشئة من تلك المثيرات والسلوكيات الناتجة عنها.

4) الارتباط الشرطي: الثواب والعقاب يؤثر في السلوك ليس من خلال ارتباط شرطي ميكانيكي وإنما من خلال ارتباط معرفي يؤثر في الاختيار.

5) التنظيم الذاتي للسلوك: من خلال التذكر والتوقع واللغة ، نحن نختزن البيئة داخلنا، وبالتالي الأفكار التي نفكر فيها تؤثر في سلوكياتنا بنفس قوة المؤثرات الخارجية. إذاً، يمكن للإنسان أن يصنع لنفسه بنفسه نظاماً داخلياً للثواب والعقاب لكي يحفز نفسه.

تكلم باندورا على أهمية "النموذج" Modeling في العلاج السلوكي المعرفي. تكلم أيضاً على تنظيم النفس self-regulation والإحساس بالكفاءة الذاتية self-efficacy كعامل مؤثر في السلوك. ليست المكافأة الخارجية فقط هي الدافع للسلوك الإيجابي ولكن الإحساس بالكفاءة الداخلية يدفع الإنسان لأن يجرب سلوكاً جديداً. لذلك فبحسب باندورا يجب على المعالج ليس فقط أن يؤسس نظام من الإثابة الخارجية وإنما ينمي شعور المريض بالكفاءة الذاتية.

ب. العلاج السلوكي المعرفي Meichenbaum / Beck

* هناك ثلاث مراحل للعلاج:

أولاً: أن يصبح المريض واعياً بالأفكار التلقائية التي تنشأ داخله كرد فعل للمشكلة.

ثانياً: يحاول العميل والمعالج معاً إيجاد أفكار بديلة (جمل تقريرية جديدة خاصة بالنفس) Self-statements يمكن أن تحل مكان الأفكار المؤدية للمشكلات.

ثالثاً: يقوم الشخص بتغيير معتقداته المحورية core beliefs وطريقة تفكيره التي أدت إلى تكوين مثل هذه المعتقدات، ويبدأ في اختبار النتائج الإيجابية للمعتقدات الجديدة. من أمثلة الأفكار المحورية ما يلي:

- قيمة الإنسان هي فيما يفعل.

- يجب عليّ أن أنجح دائماً.

- يجب أن يكون الجميع راضين عني لكي أرضى عن نفسي.

- يجب أن أفعل كل ما يطلب مني.

- أنا أقل من الجميع.

- أنا غير قادر على مواجهة الآخرين ورفض ما يطلبونه مني.

- لن أستطيع أن أحتمل الصراع مع الآخرين.

يمكن تحدي الأفكار المشوهة باستخدام طرق لجمع المعلومات، ربما أخذ آراء آخرين أو أسئلة لها طابع مسحي أو شامل مثل:

- اكتب قائمة بصفاتك الإيجابية.

- اكتب قائمة بأشياء نجحت فيها خلال الستة أشهر الماضية.

- اجمع آراء 10 من زملائك في أدائك الوظيفي.

- اكتب قائمة بالأشخاص الذي تعتقد أنهم يحبونك.

يستخدم Beck أيضاً أساليب سلوكية مثل التدريب على توكيد الحقوق assertive training وغيرها.

نموذج الصحة والمرض النفسي

لا تقدم هذه المدرسة فكرة شاملة متكاملة عن الشخصية أو عن المرض أو الصحة النفسية وإنما تتبنى نظرة براجماتية للصحة النفسية فهي تفترض أن الصحة النفسية هي أمر تحدده الثوابت المجتمعية ويحدده الشخص بنفسه بما يحقق له الراحة النفسية والفعالية في المجتمع. يصف كثير من الدارسين توجه هذه المدرسة بأنه توجه "غير أخلاقي" بمعنى أنه لا يقدم مقياساً يخضع له الإنسان بقدر ما يصنع الإنسان نظامه لنفسه بما يحقق له أهدافه. بالتالي فإن نموذج العلاج النفسي يدور حول تقليل الأعراض كما أن العلاقة بين العميل والمعالج تتسم بأنها أقل شخصية من المدارس الأخرى مثل المدارس الديناميكية (وبالذات مدرسة العلاقة بالموضوع). من الدراسات المثيرة تلك الدراسة المقارنة[1] بين علاج 30 شخص بواسطة علاج ديناميكي قصير المدى و 32 شخص بواسطة العلاج المعرفي السلوكي والتي وجدت أن نجاح العلاج المعرفي يعتمد على أن المعالجون المعرفيون الجيدون يمتلكون نفس الدفء الشخصي والعلاقاتي والحساسية الوجدانية التي يطبقها المشيرون الديناميكيون الجيدون. هذا يشير كما تشير الكثير من الدراسات الآخرى إلى أن العلاقة الشخصية والتواصل الوجداني أمر أساسي في التغيير. من أخطار العلاج المعرفي أنه يركز على الجوانب المنطقية بطريقة قد تغري المعالج ألا يهتم بالجوانب الشخصية والوجدانية ويظل معتبراً نفسه معالجاً ناجحاً.

المعالج في هذه المدرسة يقوم بدور مُشخِّص (من يقوم بالتشخيص)، ومعلم و/أو مستشار تقني يقوم بتقييم العمليات الفكرية الخاطئة (اللاتوافقية) ويعمل مع العميل لوضع عمليات فكرية أكثر صحة وتوافقاً.

وصف أحدهم ثلاث أنواع أساسية للتدخلات العلاجية التي تقوم بها هذه المدرسة وهي:

  • التدريب على مهارات التأقلم مع المواقف الصعبة Coping skill training

على سبيل المثال: تدريب المدمنين على المواقف عالية الخطورة (على سبيل المثال مقابلة صديق يتعاطى)

  • إعادة التشكيل المعرفي Cognitive restructuring ، وذلك يركز على تعديل أنماط التفكير اللاتوافقية (على سبيل المثال تحدّي وتغيير أنماط مريضة مثل التفسير السلبي أو التعميم أو غير ذلك)
  • التدريب على حل المشكلات Problem-solving training وفيه يقوم الشخص بتوسيع قدراته العامّة على فهم وحل المشكلات الصعبة التي تواجهه في حياته. على سبيل المثال مواجهة المواقف الاجتماعية الصعبة أو الشخصيات الصعبة أو مهارات اتخاذ القرارات (كشف الأرباح والخسائر، الخ).

النقد المسيحي

الافتراضات الفلسفية

بطبعية الحال لا تتفق المسيحية مع الافتراضات الفلسفية العامّة لهذه المدرسة مثل المادية أو التصغيرية أو العلمانية بوصفها نظريات تخرج الله من معادلة الحياة الإنسانية وترفض أي تدخل فائق للطبيعة، كما أنها تجرد الإنسان من صفات مثل الحرية و العقلانية والقدرة على التقرير وهي صفات ممنوحة له من الله كمخلوق على صورة الله، كما تؤمن المسيحية. مدرسة العلاج السلوكي تتبنى نفس نطرية السلوكية behaviorism التي لا تقتنع بوجود ما يسمى العقل mind وتعتبر أن التفكير ما هو إلا عملية مادّية مؤسسة على علم الأعصاب وقوانين السببية المباشرة، أما المدراس المعرفية فتؤمن بالتفكير.

بالرغم من إيماننا بالحرية ورفضنا لكل أشكال الحتمية المادّية و بأن الإنسان مخلوق روحي، إلا أننا لا يجب أن ننسى أننا مازلنا في الجسد فلا نستطيع أن ندّعي أن اختياراتنا حرة تماماً. أي أننا كمسيحيين يجب أن نؤمن بمفهوم الحرية المحدودة. بمعنى أن يكون الموقف المسيحي وسطاً بين حتمية السلوكية والحرية المطلقة للمدارس الإنسانية والوجودية.

نموذج الشخصية والصحّة والمرض النفسي

تؤكد المدرسة المعرفية على أن ما نؤمن به له تأثير كبير على سلامة حالتنا من كل النواحي. هذا مفهوم يتفق تماماً مع المسيحية ولعله يعكس صدى ما يقوله العهد الجديد في فيلبي 4: 8-9 " أخيراً أيها الإخوة كل ما هو حق، كل ما هو جليل، كل ما هو عادل، كل ما هو طاهر، كل ما هو مُسرّ، كل ما صيته حسن، ن كانت فضيلة وإن كان مدح، ففي هذه افتكروا."

كما تتفق كل من المسيحية ومدرسة العلاج المعرفي السلوكي على أن أفكار الإنسان وسلوكياته يمكن تغييرها. ومن مسئوليات الإنسان أن يكون له وعي بنفسه ويفحص أفكاره ويصححها (مز 139: 23- 24). كما أن الكتاب يحثنا على ترك الأفكار الخاطئة (إشعياء 55: 7) ونسعى إلى تجديد أذهاننا (أفسس 4: 22- 25، ورمية 12: 1-2) هناك إذاً تشابه بين عملية "التقديس" والنمو الروحي وعملية العلاج المعرفي السلوكي، لكن الفرق الجوهري هو دور الله في هذه العملية. في رأيي أن هناك ثلاث عوامل يمكن إغفال أي منها لتحقيق النمو الصحي روحياً ونفسياً واجتماعياً وهي:

* اختبار نعمة الله بشكل مستمر في علاقة حية فعّالة مع الله المثلث الأقانيم، والانفتاح على التدخلات الإلهية الحرّة بجميع أنواعها التي تتعامل مع الفكر أو تخترق إلى الوعي متجاوزة الفكر أو حتى اللغة المفهومة.

* ديناميكيات الحياة المجتمعية وسط جماعة تؤمن بالنعمة والقبول وقيمة الإنسان غير المنحصرة في أداءه ، وفي نفس الوقت تشجع أفرادها على النمو والتغيير روحياً ونفسياً وسلوكياً.

* المجهود الفردي الذي يقوم به كل إنسان مع نفسه من فحص أفكاره واختبار مدى صحة هذه الأفكار والحديث إلى نفسه، والتدريب على مهارات التعامل مع المواقف وتغيير الأفكار والسلوكيات.

هناك كثير من المدارس النفسية والطوائف المسيحية تميل إلى التركيز على عنصر دون الآخر من هذه العناصر وهكذا يحدث عدم إتزان، يؤدي إلى حدوث تعطل أو ضعف في مسيرة النمو والتغيير بحيث تعود هذه المسيرة إلى سابق قوتها عندما تتم استعادة هذا الاتزان.

موقف المدرسة المعرفية السلوكية من المشاعر

هناك ميل من جانب هذه المدرسة أن تعتبر أن المشاعر هي مصدرضيق أو اضطراب، أو على الأقل مجرد نتيجة للأفكار وليست مصدر مهم للنمو والمعرفة يثري التجربة الإنسانية. تشترك بعض الدوائر المسيحية في هذا المفهوم، معتبرة أن المشاعر خطر ولا حاجة للتعامل معها، فقط على الإنسان أن يؤمن ويثق، والمشاعر سوف تتبع دون بذل المجهود في العمل على المشاعر نفسها من التعرف عليها والتعبير عنها والتحكم فيها.

موقف المدرسة المعرفية السلوكية من الإنسان

تنظر هذه المدرسة إلى أن الهدف الأساسي للإنسان هو مصلحته الشخصية وإن خرج من نفسه إلى شخص آخر فهو يفعل ذلك لأن هذا يؤدي إلى مصلحته أيضاً ولكن على المدى البعيد. يشترك اللاهوت المسيحي أيضاً في الإيمان بفساد الإنسان وسقوطه، وميله للأنانية والتمركز حول نفسه، إلا أنه يؤمن أيضاً بأن الإنسان بوصفه مخلوق على صورة الله، فهو قادر على استقبال الحب غير المشروط من الله واعطاءه للآخر ين. أي أن الإنسان يستطيع أن يتجاوز نفسه، وذلك فقط من خلال نعمة الله. الله يتعامل مع الإنسان بمنطق المحبة والقبول غير المشروطين، ولكنه يرى أيضاً أن الإنسان في فساده يحتاج إلى نوع من الثواب والعقاب لتحفيزه لذلك فإن هناك مجازاة في السماء على السلوكيات الإيجابية.

تهدف المدرسة السلوكية المعرفية إلى جعل الإنسان قادر على إدارة نفسه ومشاعره ويشعر بالكفاءة الذاتية. هذا المفهوم من الممكن أن يكون غير مقبول مسيحياً باعتباره ربما يؤدي للكبرياء، ولكن لا مانع من أن يستمتع الإنسان بكفاءته وقدراته دون أن يفقد إحساسه بالاعتماد المطلق على الله. نفس الوصية التي أعطاها الله لآدم هي يُخضع الأرض ويتسلط عليها دون أن ينسى اعتماده على الله عموماً نحن نحتاج لأن نعيش في هذا التوتر الديناميكي الخلاّق بين استخدام قدراتنا والاعتماد على الله.

نمط العلاج النفسي

لا تعكس مدرسة نفسية التوازن الكتابي بين الفكر والسلوك كما تعكسه المدرسة المعرفية السلوكية. في المزمور التاسع عشر يقول كاتب المزمور: " لتكن أقوال فمي و فكر قلبي، مرضية أمامك، يا رب صخرتي وولي." مزمور 19: 14. ليس غريباً إذاً أن نجد أن أسلوب كل من جاي آدمز ولاري كراب (المشورة الكتابية)، يعكسان توازياً مع التوجه المعرفي السلوكي في الكتاب المقدس. لكي يظل السؤال، لكن هل التوجه السلوكي المعرفي هو التوجه الكتابي الوحيد للتعامل مع الإنسان ومعاناته؟ هناك بالطبع التوجه العلاقاتي الذي يعتبر محورياً في نظرة الكتاب المقدس لاحتياجات ودعوة الإنسان.

بالرغم من القبول الكبير الذي تمتع به هذه المدرسة في الأوساط المسيحية، إلا أن هناك بعض المشكلات مع ذلك الأسلوب العلاجي:

1) عدم وجود بعد أخلاقي للعلاج بمعنى أن الهدف الوحيد هو تخفيف الأعراض مهما كان الأسلوب.

2) عدم وجود بعد نُمُّوي لهذه المدرسة، حيث لا يوجد فيها توجّه بّعدي أو غائي تهدف المدرسة الوصول إليه (مثل تحقيق الذات في المدرسة الوجودية، أو إقامة علاقات صحية جديدة في مدرسة العلاقة بالموضوع، أو غير ذلك) الهدف بالنسبة للمدرسة المعرفية السلوكية هو مجرد " الحياة بلا ألم أكثر من اللازم". وفي نفس الوقت، غياب هذا البعد العقائدي بالنسبة لهذه المدرسة، يجعلها سهلة التطويع لتوافق الرؤية المسيحية أكثر من غيرها من المدارس.


[1] Enrico. E. Jones, and Steven, M. Pulos, “ Comparing the Process in Psychodynamic and Cognitive-behavioral Therapies, “ Journal of Counseling and Clinical Psychology 61( 1993): 306- 316