Monday, February 19, 2007

نحو صحة روحية ونفسية

الفصل الثاني

آفاق التكامل

نحو صحة نفسية وروحية متكاملة

تحديات التكامل

يحاول الخدام المسيحيون الذين يعملون في مجال المساعدة الإنسانية سواء كانوا مشيرين أو رعاة أو معالجين متخصصين أو أطباء نفسيين أن يتجاوبوا مع الاحتياجات الواقعية لمن يساعدونهم. وبمجرد أن يتخلى المساعد عن مجرد محاولة تطبيق النظريات التي يؤمن بها و التقنيات التي تدرب عليها، ويبدأ في التجاوب مع احتياجات البشر الحقيقية، يصبح عليه أن يخوض غمار التحديات الحقيقية للتكامل، ولذلك لكون الإنسان كائن غير بسيط فهو كائن روحي يشتاق ويحتاج للعلاقة بالمطلق وغير المحدود، وهو كائن نفسي له مشاعر جياشة وفكر وخيال وإبداع وهو أيضاً كائن اجتماعي يتأثر بالعلاقات. فهو يتوق لأن يُحِب ويُحَب و يرغب في الانتماء لجماعة كبيرة. و فوق كل ذلك فإن الإنسان المخلوق على صورة الله لكونه الحامل لأمانة النسمه الإلهية فإن لديه إرادة حرة. هذه الإرادة الحرية، إن كانت سليمة، فهي تمكنه أن يتخذ قرارات عكس رغبات الجسد و تيارات المشاعر والأفكار و بالرغم من ثقافة المجتمع المحيط إذا رأى أنها مضرة وهدامة. يقدم مارك ماكمين في كتاب علم النفس واللاهوت والروحانية في المشورة المسيحية خمسة تحديّات أساسية تواجه عملية التكامل الحقيقي.

التحدي الأول: الاحتياج لدمج الروحانية في منظومة التكامل

ربما يكون التوفيق بين علم النفس و علم اللاهوت تحدياً، لكن التحدي الأصعب هو الدائرة الثالثة و هي دائرة الروحانية الشخصية. تاريخياً، اختفت الروحانية الشخصية من منظومة محاولات التكامل التقليدية بين المسيحية وعلم النفس. ما هي الروحانية؟ يقدم دالاس ويلارد في كتابه "روح التدريبات الروحية" هذا التعريف: " تتكون الروحانية أو الحياة الروحية من تلك المجموعة من الأنشطة التي فيها يتفاعل البشر مع الله ـ ومع ذلك النظام الروحي النابع من شخصية وعمل الله" [9] و يعدد ويلارد مجموعة من الأنشطة أهمها الصلاة الشخصية و التأمل والعبادة الجماعية والصوم و أسلوب الحياة البسيط.

من الضروري أيضاً إدراك أن التدريبات الروحية في حد ذاتها لا تحدث التغيير ولكنها طرق لممارسة اللقاء المنظم مع الله، والتفاعل المباشر مع نعمته. نعمة الله هي التي تغيرنا. أما التدريبات الروحية فهي الطرق التي بها نضع أنفسنا في نطاق عمل النعمة الإلهية، لذلك فهي يمكن أن تسمى أيضاً "وسائط النعمة".

بين الروحانية والروحنة.

الفارق الجوهري بين الروحانية و ما يمكن أن نسميه "الروحنة" Spirituality versus spiritualism هو أن الروحنة ببساطة منبعها الذات من خلال الرغبة في اختبار اختبارات خاصة من التعزية والبركة والحضور والفهم والمعنى. أما الروحانية الكتابية فتدور حول العلاقة مع الله والتكريس له سواء حصل الإنسان على اختبار أو لم يحصل، وسواء فهم شيئاً عن العالم أو الكون أو نفسه أو لم يفهم! وسواء أُيجبت صلواته أم لم تستجب. الروحنة أيضاً تميل إلى تجاهل الدور الإنساني في الحياة الروحية، وأيضاً تتجاهل دور العلاقات الإنسانية في عملية النضوج النفسي والروحي. وتميل إلى الثنائية الروحية بحيث ترى أغلب الأشياء من منظور الله والشيطان فقط. بينما الروحانية الحقيقية لا تتجاهل الواقع النفسي والجسدي والاجتماعي جنباً إلى جنب مع الواقع الروحي.

بين الروحانية والإساءة الروحية

تنبع الإساءة الروحية من استخدام الروحانية أو السلطة الروحية بطريقة تسبب أيذاء نفسي وربما روحي للآخرين. لذلك ربما كانت التخوف من هذا الإيذاء الروحي سبباً من النفور التاريخي بين الكنيسة المصلحة والتدريبات الروحية ( يمكن قراءة المزيد عن الإساءة الروحية في كتاب الروحانية والتعافي للكاتب).

التحدي الثاني: الاحتياج لتحقيق التوازن بين ما هو شخصي وما هو مهني

بالنسبة للمساعدة والرعاية النفسية، يصعب التفريق بين ما هو شخصي و ما هو مهني. المساعدة الحقيقية لا تنبع فقط من تقنيات أو مهارات أو معلومات يستخدمها المساعد مع طالب المساعدة. وإنما تنبع من شخصيته و نوعية وجوده وروحانيته. الراعي أو المساعد عموماً ليس مجرد شخص محترف يقدم خدمة أو يمارس مهارة، و إنما يعتبر مستوى نضوه واختياراته الأخلاقية عناصر أساسية في عملية المساعدة. وجدت دراسة قام بها مجموعة من الباحثين بقيادة C.B.Truax[10] أن اثنين من كل ثلاثة معالجين إما غير فعّالين أو مضرين. كما وجدت الدراسة أن المعالجين الفعالين، لم ترجع فعاليتهم إلى معرفتهم أو توجهاتهم النظرية أو إلى مهاراتهم النقنية في العلاج وإنما لكونهم يمتلكون ثلاث صفات شخصية أساسية و هي: الدفء غير الاستحواذي و الفهم الوجداني "المواجدة" و الصدق والأصالة. وهذه الصفات لا تنبع من تدريب المشير أو قراءاته وإنما من حياته الداخلية و اختيارته الروحية اليومية. لذلك فإن طالب المساعدة بشكل فطري، يبحث أولاً عن شخص يحترمه ويمثل القيم التي يؤمن بها ويستطيع أن يستأمنه على مشاعره وأسراره و مشكلاته.

المساعدة عملية مهنية لأنها تتم في وقت محدد ومكان محدد ولها أجر محدد أحياناً، كما أن لها مدة محددة تبدأ فيها وتنتهي بعدها، هي أيضاً علاقة غير متبادلة، فطالب المساعدة يكشف نفسه أكثر من المساعد. على الجانب الآخر، يمكن اعتبار المساعدة علاقة شخصية لأن فيها كل من المساعد وطالب المساعدة يستثمران من وقتهما ومشاعرهما في علاقة المساعدة، كما يستخدم كل منهما كلمات تنبع من رؤيته للعالم وأفكاره الشخصية وطرق حكمه على الأمو و مقاييسه الأخلاقية. أيضاً يمكن أن يصلي الراعي أو المساعد من أجل طالب المساعدة في وقت صلاته الخاص، كما أن كل من المساعد وطالب المساعدة أخوة وأخوات في المسيح وفي الكنيسة.

التحدي الثالث: الاحتياج للتشكيل الروحي كعنصر من عناصر التدر يب على المشورة

في كتابه روح التدريبات الروحية يؤكد دالاس ويلارد على أن التشكيل الروحي هو عملية من التدريب المستمر وليست ممارسة وقتية لقوة الإرادة أو التركيز. على هذا الأساس فإن أسلوب المشير المسيحي يعكس بوضوح مدى التزامه بالتدريبات الروحية في حياته الشخصية من خلال ظهور ذلك في صفاته الشخصية مثل روح الرعاية أو الموضوعية دون تحيز لوجهة النظر الخاصة، والقدرة على التعاطف الوجداني، والحكمة والبصيرة الروحية. للأسف الشديد بالرغم من أن أغلب الأبجاث تشير إلى أن نجاح المشير يرجع إلى طبيعة شخصيته أكثر من مهاراته، إلا أن كل برامج التدريب على المشورة سواء كانت رعوية أم تخصصية، تغفل جانب التشكيل الروحي!

التحدي الرابع: الاحتياج لاستيعاب الخلفيات الفكرية للمدارس النفسية

خلف كل نظرية للعلاج النفسي توجد مفاهيم فلسفية ورؤية متكاملة للعالم. لذلك لا يمكن التعامل مع هذه المدارس فقط من المنظور العلمي أو التقني فقط مع تجاهل الخلفية الفلسفية التي تشكل هذه الفروض النظرية و التقنيات العلاجية. و إذا لم ندرك هذه الخلفيات الفلسفية، فإننا ربما نقبل مدارس لا نتفق معها فكرياً و بالتالي نعيش تناقضاً يؤدي إلى عدم وصولنا للنضوج النفسي والروحي المتكامل الذي ننشده لأنفسنا و لمن نساعدهم. لهذا سوف نتناول في فصول قادمة أغلب المدارس الرئيسية للعلاج النفسي مع شرح فرضياتها الفلسفية ورؤيتها للعالم و للإنسان، وللصحة النفسية والمرض بالإضافة إلى نقد مسيحي لكل من هذه النظريات.

التحدي الخامس: الاحتياج لتأسيس الثقافة العلمية في مجال المشورة المسيحية

على الجانب الآخر، يمكننا بسبب الرغبة في تجنب علم النفس العلماني نرفض كل صور علم النفس بل وربما نرفض العلم عموماً ولا نشعر بالحاجة إلى التوثيق العلمي الموضوعي لما نضعه من فرضيات. هذا من شأنه أن يفقدنا اللغة العلمية و يعزلنا عن المجتمع العلمي فلا نستطيع أن نتحاور معه أو نؤثرفيه.

التحدي السادس الاحتياج إلى وضع مقاييس أخلاقية واضحة لممارسة المشورة المسيحية

السؤال الذي يجب أن نسأله لأتفسنا هو: " هل يحصل الأشخاص الذين يأتون لطلب المساعدة من مشير مسيحي على معلومات دقيقة عن أسلوب المشورة الذي سوف يمارسه معهم، وهل تُقدم لهم خيارات مختلفة يختارون منها، وهل يوقعون على إقرار مكتوب بقبولهم هذه الخطة العلاجية؟ ربما يكون التوقيع على إقرار، شأنه شأن كل ألوان التواصل بالكتابة، أمراً صعباً في ثقافتنا العربية الشفاهية، لكن أليس من حق من يطلب المساعدة أن يعرف كيف سوف تتم مساعدته وهل يوافق على ما سوف يتم أم لا؟ عندما قام باحث اسمه ورثنجتون بمراجعة الأبحاث التي تم إجراءها على المشورة الدينية، وجد أن العملاء الذين يذهبون لمثل هذا النوع م المشورة لديهم ثلاثة أنواع من الافتراضات المسبقة.[11] أولاً:يفترض طالبوا المشورة المسيحية أن أي مشورة يقدمها شخص مسيحي هي مشورة مسيحية. وهذا بالطبع غير سليم تماماً فالكثير من المشيرين المسيحيين ربما يطبقون نظريات وتقنيات لا تتفق مع اللاهوت المسيحي. صحيح أن العلاقة العلاجية كثيراً ما تكون أهم من التقنيات العلاجية ولكن من الضروري أخلاقياً أن يقبل العميل التقنيات العلاجية التي سوف تستخدم معه. ثانياً: بعض الناس يؤمنون أن المشورة المسيحية هي فقط تطبيق تقنيات الإرشاد الروحي مثل التشجيع على الصلاة وتقديم المنظور الكتابي للمواقف الإنسانية والعلاقاتية المختلفة، لكن الحقيقة غير ذلك فأغلب المشيرين المسيحيين المتخصصين يمارسون تقنيات نفسية مختلفة مثل العلاج المعرفي أو الديناميكي بأسلوب مسيحي. بالمناسبة، دلت بعض الأبحاث أن المشيرين الذي يمارسون فقط التقنيات الروحية، بالرغم من أن البعض يتهمهم أنهم "دينيون أكثر من اللازم"، إلا أن نتائجهم تماثل نتائج المشيرين المسيحيين الذين يستخدمون تقنيات علاجية مثل العلاج المعرفي المسيحي وأن هذا النتائج الإيجابية قد تم الحفاظ عليها على مدار سنتين من المتابعة[12] (هذا أيضاً يؤكد على أن العلاقة العلاجية أكثر أهمية من التقنيات العلاجية). ثالثاً: يفترض البعض أن المشورة المسيحية ما هي إلا مشورة علمانية مضافاً إليها بعض "الشحنات" الروحية. صحيح أن إحدى الدراسات وجدت أن العلاج المعرفي عندما تضاف إليه صور ذهنية دينية أو يدعم بأفكار دينية أو آيات كتابية فهو يصبح أكثر فعالية من العلاج المعرفي المعتاد في علاج الاكتئاب[13]، إلا أن مجرد "مسحنة" العلاج النفسي دون تكامل عميق يدرك الخلفيات الفلسفية لكل مدرسة نفسية، ربما يجعل بعض المشيرين يقبلون الجمع بين متضادات ربما دون أن يدروا، ويظنون أن أي تقنية علاجية يمكن "مسحنتها" وجعلها مقبولة بإضافة بعض الآيات والعناصر الروحية عليها بالرغم من أنها قد تكون مبنية على رؤية غير مسيحية للعالم. يحضرني في هذا الصدد أن أحد المشيرين المسيحيين اقترح على شخص يصارع مع الجنسية المثلية (أي الميل الجنسي لنفس الجنس) أن يلجأ إلى مشاهدة صور جنسية غيرية (أي لرجال مع نساء) ويمارس العادة السرية كنوع من العلاج السلوكي لإعادة برمجة ذهنه لتصحيح توجهه الجنسي. صحيح أن هذا العلاج السلوكي ربما يحقق بعض النجاح سلوكياً، لكن هل هذا النجاح يمكن القبول به في إطار الرغبة المتكاملة في الوصول إلى النضوج الروحي والنفسي للعميل؟!

يقدم مارك ماكمين ما يسميه "خريطة الطريق" للمشورة المسيحية الهادفة للنضوج الروحي والنفسي وهي تمتاز بأنها خريطة بسيطة وعملية بعيدة عن التعقيد النظري وقابلة للتأقلم مع كل مدارس المشورة والعلاج النفسي، كما أنها تشكل نظرة روحية ونفسية متكاملة.

نقطة البداية في هذه الخريطة هي الوعي السليم بالنفس، ثم يتبع هذا الوعي إدراك للإنكسار والاحتياج، ثم طلب العلاقة الشافية مع الله والآخرين. فيما يلي سأحاول أن أسترشد بهذه الخريطة لكي أقدم نموذجاً أرجو أن يكون فعالاً كمنظومة متكاملة من النضوج الروحي والنفسي مبنية على قواعد سليمة كتابياً ونفسياً، بحسبما أرى الآن.

أولاً: الوعي السليم بالنفس

من يحصلون على فهم لأنفسهم يتزايد في الدقة والامانة ولديهم أيضاً قبول متزايد لما يفهمونه ويكتشفونه في أنفسهم، يتمتعون بقدر متزايد من الصحة النفسية والروحية. لا يعني هذا ببساطة أن كل ما علينا أن نفعله هو أن "نحب انفسنا أكثر" وينتهي الأمر. هذه توجه تبسيطي. في أحيان كثيرة تكمن المشكلة في إننا إما نحب أنفسنا أقل من اللازم أو نحب أنفسنا أكثر من اللازم. العنصران الذان يفتقر إليهما أغلبنا، هما عنصري الفهم والقبول. الفهم لا يعني معرفة كل شيء فلا أحد يعرف كل شيء عن نفسه، ولكن المقصود هو الحصول على وعي متزايد بما يحدث في النفس من صراعات وما يجوب سماء الذهن من أفكار تلقائية و ما تجيش في النفس من مشاعر. هذا الوعي المتزايد يتيح الفرصة للتعبير، والتعبير بدوره يعمق الوعي و يجسده.

أيضاً القبول لا يعني الموافقة التامة على كل ما نجده في أنفسنا. أو عدم الرغبة في التغيير والنمو. القبول يعني ببساطة الاعتراف بالواقع والتعامل معه بنضج و بقدر متناقص من الدفاعية (أقول قدر متناقص من الدفاعية ولا أقول بلا دفاعية تماماً فوحده الله القادر أن يرى الحقيقة بلا قلق أو دفاع). على سبيل المثال لكي يتعايش مريض السكر مع مرضه و يقي نفسه من مضاعفاته، عليه أن يقبل حقيقة إصابته بهذا المرض، ولا ينكره. فعندما يقبل مريض السكر حقيقة المرض، سوف يطيع الطبيب ويلتزم بالنظام الغذائي السليم ويتناول جرعات الإنسولين بانتظام. هذا بالبطع لا يعني الموافقة على مرض السكر أو الوقوع في غرامه ! بحيث إذا تم اكتشاف شفاء تام من مرض السكر فإن المريض سوف يرفضه!

الفهم والقبول خطوتان تفتحان الباب إلى التعامل مع النفس بشكل سليم وعدم الإنشغال الزائد بالنفس. يصف ابراهام ماسلو رائد المدرسة الإنسانية في علم النفس أن النضوج النفسي في حياة الإنسان هو أن يصل إلى حالة من العلاقة بالنفس يسميها " تحقيق الذات " و كانت نتيجة دراسته لمجموعة من الأشخاص لمدة عشرين سنة، أنه قدم الأوصاف التالية للشخص المحقق لذاته Self-actualizer مع إدراكه بالطبع أن عملية تحقيق الذات هذه عملية مستمرة تستغرق الحياة كلها وليست مهمة يقوم الإنسان "بإنجازها" والانتهاء منها في وقت ما.

1) الواقعية

أي القدرة على استقبال الواقع والتعايش الفعال معه. هي ألا يشعر الإنسان أنه دائماً مهدد وخائف من المجهول ولا يريد مواجهته. من مظاهر الصحة والنمو النفسي البحث الدائم عن الحقيقة وفي نفس الوقت قبول الواقع بشأنها وهو عدم اكتمالها واستحالة الحصول على كل الإجابات عن كل الأشياء. يقول بولس الرسول في رسالة كورنثوس: " لما كنت طفلاً كطفل كنت أتكلم وكطفل كنت أفطن وكطفل كنت أفتكر ولكن لما صرت رجلاً أبطلت ما للطفل. فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز لكن حينئذ وجهاً لوجه. الآن أعرف بعض المعرفة لكن حينئذ سأعرف كما عرفت " (1كورنثوس 13: 11) يربط بولس الرسول بين النضوج و القدرة على احتمال الغموض وعدم اكتمال المعرفة .

2) القبول

ويشتمل هذا على قبول النفس كما هي بدون شعور معوق بالذنب، و قبول الآخرين كما هم، وعدم الإنشغال الزائد بالرغبة في تغييرهم، وأيضاً قبول الطبيعة الإنسانية والظروف الطبيعية في الكون كما هي. يقول بولس الرسول أيضاً في رسالة رومية." ومن هو ضعيف في الإيمان فاقبلوه لا لمحاكمة الأفكار." (رومية 14: 1) الإنسان يستطيع بنعمة الله أن يتغير ويجدد ذهنه ويصحح أفكاره ولكن ليس من خلال الإدانة والمحاكمة وإنما من خلال القبول بالواقع كخطوة أولى لتغييره.

3) التلقائية والبساطة والطبيعية

التلقائية هي أن يتصرف الإنسان على طبيعته دون تصنع وتكلف. و تتضمن أيضاً القدرة على الاستمتاع دون كثير من الندم والإحساس بالرغبة في الاعتذار دائماً. بكلمات أخرى وبحسب نظرية إريك بيرن للتحليل التفاعلاتي transactional analysis أن يدع الإنسان الطفل الذي بداخله يعبر عن نفسه وبالذات الصفات الإيجابية في الطفولة مثل التلقائية والبساطة دون الصفات السلبية مثل العناد والأنانية وعدم الصبر. يقول السيد المسيح في الإنجيل أن من لا يقبل ملكوت الله مثل ولد لن يدخله. (لوقا 18: 17).

4) عدم الانحصار في النفس

عدم الانحصار في النفس له أكثر من جانب. أولاً الموضوعية أي التركيز على الموضوعات و المشكلات وعلى الآخرين بدلاً من التركيز على الذات. ثانياً لإحساس بهدف للحياة خارج النفس و ثالثاً الإحساس بالواجب بهدوء ودون قلق مبالغ فيه. وهذا ما يقوله المسيح أيضاً فهو يقبل أن يحاول الإنسان أن يجد نفسه ،أو "يحقق نفسه" بلغة ماسلو، ولكن الطريق الذي يقدمه الإنجيل لتحقيق الذات الإنسانية الأصيلة التي خلقنا الله لكي نعيشها، هو من خلال الخروج خارج النفس، فمن وجد حياته يضيعها ومن أضاع حياته من أجل المسيح والملكوت والإنجيل، أي من أجل هدف أسمى و أكبر فهذا يجدها (متى 10 39).

هذا الموضوع من النقاط الهامة في الصراع بين علم النفس والدين. فالدين يتهم علم النفس بأنه يدعو للإنحصار في النفس، وعلم النفس يتهم الدين أنه يدعو لكراهية النفس. الواقع أن هذه الاتهامات صحيحة وغير صحيحة في نفس الوقت. صحيحة لأن بعض الممارسات النفسية تؤدي أحياناً إلى الانحصار في النفس، و أيضاً بعض الممارسات الدينية غير الكتابية أحياناً وعن غير قصد إلى كراهية النفس. العهد الجديد بالطبع لا يدعو لكراهية النفس ولكنه يقول أن الحب الحقيقي للنفس يكون بالخروج خارجها، و بصلب الجسد أي بصلب الطبيعة الأنانية المنحصرة في النفس لأن هذه الطبيعة لا تحافظ على النفس وإنما تميتها روحياً ونفسياً. أي أن الإنجيل يدعونا لقتل الموت الذي بداخلنا فنحيا ! وها هو ماسلو رائد المدرسة الإنسانية المتهمة دائماً بدعوة الإنسان إلى الانحصار في نفسه، يقول أن تحقيق الذات يتم بالخروج خارج النفس. هل معنى هذا أن العهد الجديد والمدرسة الإنسانية متفقان تماماً؟ بالطبع لا. فالعهد الجديد عندما يرسم خريطة الخروج خارج النفس، يرسم في منتصفها صليباً ويوجهها نحو الله والعالم الروحي. أما المدرسة الإنسانية فترسم في منتصفها إنساناً و توجهها نحو الإنسانية كلها والكون المخلوق باعتبار أنه لا يوجد شيء آخر وراءه.

المشترك بينهما هو أنهما يؤكدان أن نضوج وصحة الإنسان تكمنان في أن يخرج خارج نفسه إلى ما هو أسمى وأكبر منه. والمختلف بينهما هو في تعريف الأسمى، فالمسيحية ترى أن الأسمى ليس من هذا العالم بينما تراه المدرسة الإنسانية في هذا العالم. المسيحية ترى أن الإنسان ساقط بداخله ناموس موت يمكن أن يقضي عليه، وفي نفس الوقت هو مدعو للحياة في العالم الروحي كخليقة جديدة، و من خلال الإيمان بالمسيح المصلوب و بمعونة الروح القدس، يميت كيان الموت الكائن بداخله ليحيا ليس فقط على مستوى الإنسان غير الساقط، بل على مستوى الإنسان الجديد الممجد.[14] أما المدرسة الإنسانية فترى أن الإنسان لم يسقط و لا يوجد كيان موت داخله وإنما كل ما فيه من شر هو بسبب أنه لم يتكشف نفسه بعد وعندما يكتشف نفسه ويحققها فإنه يتحرر من كل شروره وآثامه.

5) القدرة على عمل علاقات صحية بالآخرين

من علامات تحقيق الذات، القدرة على التوحد بالآخرين والدخول إلى داخلهم وجدانياً و رؤية الدنيا من منظورهم، وعدم الاكتفاء برؤية الدنيا من المنظور الذاتي فقط. هذا يجد ذروته في العهد الجديد في موعظة المسيح على الجبل التي فيها يتحدى البشر أن يحبوا أعدائهم ويباركوا لاعنيهم ويصلوا لأجل الذين يسيئون إليهم ! (متى 5: 44).

6) الاحتياج للخصوصية والقدرة على الانفصال

من تحرك للأمام في اتجاه تحقيق الذات بحسب نظرية ماسلو، يشعر بفرديته وبقيمته بدون الجماعة أي أنه لا يحتاج دائماً أن يكون وسط الجماعة لكي يشعر بقيمته، وفي نفس الوقت يشعر بالاحتياج للآخرين. يسوع، الإنسان الكامل أو بلغة ماسلو، الإنسان الوحيد المحقق لذاته بحسب إيماننا، كان يعبر عن احتياجه للآخرين وكان يعاتب تلاميذه أنهم لم يستطيعوا أن يمكثوا معه ولو ساعة واحدة (مرقس 14: 37)، لكنه كان قادراً على الانفصال حيث قال: "هوذا تأتي ساعة وقد أتت الآن تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركونني وحدي ‎. وأنا لست وحدي لأن الآب معي. (يوحنا 16: 32). وبولس، الذي يعتبره المسيحيون التلميذ المثالي للمسيح كتب يقول كيف أن روحه لم تكن مستريحة بسبب أنه لم يجد تيطس (2كو 2: 13) وكيف أن الرب قد عزاه بمجيء تيطس (2كو 7: 6) في نفس الوقت يكتب لتلميذه تيمثاوس قائلاً: " أنت تعلم أن جميع الذين في أسيا ارتدوا عني في احتجاجي الأول لم يحضر أحد معي بل الجميع تركوني. لا يحسب عليهم ولكن الرب وقف معي وقواني ..(2تي 4: 17) ويقول لأهل كورنثوس : " واما انا فبكل سرور انفق وانفق لاجل انفسكم وان كنت كلما احبكم اكثر. أحب أقل. فليكن.." (2كو 12: 15).

7) الاستقلالية

يتمتع من يحقق نفسه بالإحساس بالاستقلالية عن الثقافة والتقاليد المحيطة، وعدم الاحتياج للحصول على موافقة الآخرين بشكل قهري. هذا كان واضحاً جداً في حياة يسوع الذي قاوم بكل قوة آراء الناس فيه ورغبتهم في أن ينصبوه ملكاً ومحاولاتهم أن يتملقوه ليطعمهم أو يصنع لهم الآيات. صنع الآيات، ولكنه أيضاً قال أن الجيل الذي يطلب آية لكي يؤمن هو جيل شرير و فاسق (متى 16: 4). أطعم الجموع في مرات عندما كانوا محتاجين ومضطرين، لكن عندما أرادوا أن يستخدموه ليطعمهم مجاناً رفض و تحداهم ألا يعملوا من أجل الطعام البائد (يوحنا 6: 27). أيضاً بولس قال بشجاعة: " إن كنت بعد أرضي الناس، لست عبداً للمسيح." وتحدى مراءاة بطرس وبرنابا (رسالة غلاطية 2: 13)

بالنسبة للاستقلالية عن الثقافة والتقاليد سواء اجتماعية أو دينية فالكتاب المقدس يتبنى موقفاً متزناً حيث يقول بولس

-لا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب وفي نفس الوقت يقول - معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس

- لماذا يحكم في حريتي من ضمير آخر - كما أنا أيضاً أرضي الجميع في كل شئ

غير طالب ما يوافق نفسي.

8) القدرة على اختبار خبرات روحية عميقة

يصف إبراهام ماسلو ما أسماه بالخبرة العميقة بالكلمات التالية :

"هي الإحساس بأن الآفاق تنفتح أمام رؤيتك ، وهي الإحساس بالقوة والضعف في نفس الوقت بأنك صرت أقدر وأعجز في آن واحد، إنها الإحساس بالنشوة والعجب والرهبة، إنهاالإحساس بفقدان الوقت والمكان والاعتقاد العميق بأن شيئاً ما شديد الأهمية والقيمة يحدث لك حتى أنك تتغير وتنال قوة في الأيام القادمة حتى في الحياة اليومية العادية بسبب هذه الخبرة "

وجد ماسلو أن الأشخاص الذين قد اختبروا مثل هذه الخبرات يصيرون أكثر تكاملاً ونضوجاً وأكثر توحداً بالعالم وأكثر سيطرة على حياتهم الخاصة وأكثر تلقائية، و أكثر قدرة على استقبال الواقع على حقيقته و العمل والإنجاز وكذا اللعب والاستمتاع، و أقل تقيداً بالزمان و المكان. ويعطي ماسلو أمثلة لمثل هذه الخبرات كلحظات الإبداع العميق أو السعادة الغامرة عند اختبار جمال باهر في الطبيعة أو الاستماع للموسيقى أو بقراءة كتاب أو لوحة فنية أو خلافه. صحيح أن مثل هذه الأمور يمكن أن تكون خبرات وجودية وروحية عميقة نرى فيها الله بصورة ما. ولكن من الواضح أن ماسلو كان يطلب الكثير من هذه الأشياء، فلا توجد خبرة في الحياة أكثر تحقيقاً لهذه الأهداف من الخبرات الروحية المسيحية كاختبار التجديد أو الملء بالروح القدس ومن نال مثل هذه الاختبارات ببساطة دون أن يفلسفها ويمنطقها يحصل على هذه النتائج التي يتكلم ماسلو عنها. ويمكن أن نضيف لذلك أن النضوج النفسي والروحي، هو أن نستطيع أن نحتمل الغموض والجهل والملل بقدرا ما نستمتع بالمعرفة والخبرة والبصيرة والإثارة.

يضيف ماسلو صفات أخرى كثيرة للإنسان المحقق لذاته منها القابلية للتعلم حتى ممن هو أقل وأصغر، وأيضاً القدرة على اختبار اللحظة الحاضرة والتمييز بين الغاية والوسيلة والخير والشر وروح الفكاهة الفلسفية غير المسيئة والقدرة على الإبداع والتجديد

بالطبع بعدما عرضنا صوراً مختلفة مسيحية وإنسانية للوعي السليم بالنفس، يكون من السهل أن نكتشف صوراً خاطئة للوعي بالنفس ومنها الاستغراق في النفس. الذي ربما يكون محاولة طفلية لإشباع الجوع للحب المفقود في الأسرة. و كثيراً ما يُصاحَب ذلك بممارسات أخرى مثل الإغراق في مشاعر الشفقة على النفس أو أحلام اليقظة أو ربما التلذذ الجنسي الذاتي من خلال العادة السرية الذي يؤدي فيما بعد إلى إدمان الصور الإباحية وخلافه. قد يؤدي الاستغراق في النفس بهذه الصورة إلى الشعور الشديد بالذنب ويمكن للشعور الشديد بالذنب بالإضافة أيضاً إلى الرسائل السلبية التي يحصل عليها الطفل من المحيطين به نتيجة فشله في بعض الأمور، إلى كراهية النفس. و في النهاية غالباً ما تؤدي كل هذه الصور المشوهة للوعي بالنفس إلى عدم القدرة على ضبط النفس في نواحي محددة مثل الأكل أو الجنس أو الغضب أو غير ذلك، وهذا بدوره يزيد من الانحصار في النفس وكراهيتها وهكذا يتم تأسيس دائرة مفرغة من الاضطراب النفسي والروحي.

ثانياً: الوعي السليم بالاحتياجات

في كتابه الاحتفال بالتدريبات الروحية[15] يكتب ريتشارد فوستر: " كلما اقتربنا أكثر من نبضات قلب الله، كلما رأينا احتياجاتنا، وكلما رغبنا أن نتغير إلى صورة المسيح." لكننا كلما نبتعد عن الله، كلما نبتعد عن فطرتنا التي خلقنا الله عليها. يظهر هذا التشوه في وعينا باحتياجاتنا في صورة إنكار الاحتياجات وعدم القدرة على التعبير عنها. فنحن عندما كنا أطفال كنا نشعر باحتياجاتنتا النفسية ونعبر عنها ببساطة وسهولة، لكننا عندما كبرنا، وخصوصاً إن كنا كبرنا في بيئة لا تعترف بمثل هذه الاحتياجات، فإننا تعلمنا ألا نعبر عن هذه الاحتياجات بل نبتلعها داخلنا. و أقنعنا أنفسنا بأننا لا نحتاج لمثل هذه الأمور، بل وأكثر من ذلك ربما نكون قد أقنعنا أنفسنا أن هذه الاحتياجات رفاهية وترف لكي لا نتورع ونطالب بها. بعضنا، إمعاناً في إنكار هذه الاحتياجات، راح يهاجم من يطالبون بها أو يهتمون بها متهماً إياهم بالأنانية والانحصار في النفس. تكمن الخطورة في أن ذلك الجدار الذي بنيناه و أخفينا داخله احتياجاتنا، ربما ينهار فجأة دون أن نكون مستعدين لذلك، فتخرج هذه الاحتياجات وتعبر عن نفسها بفجاجة و بطرق خاطئة. الصورة الأخرى لتشوه الوعي السليم بالاحتياج تظهر في المبالغة والإفراط في تقدير الاحتياجات وعدم القدرة على ترشيد تسديدها أو التحكم في الطريقة التي بها نسدد هذه الاحتياجات. الأطفال يعبرون عن احتياجاتهم بسهولة لكن الأمر الصعب بالنسبة لهم هو التحكم في هذه الاحتياجات والأصعب هو تقدير احتياجات الآخرين. بعضنا كبر أكثر من اللازم وخنق "الطفل" الذي بداخله فأصبح لا يعترف باحتياجاته، والبعض الآخر ظل يتعامل مع احتياجاته كطفل غير ناضج لا يدرك أو يميز الطريقة الصحية التي يسدد بها احتياجاته دون أن يتسبب لنفسه أو لغيره في ضرر على المدى البعيد.

ثالثاً: الفهم السليم للعلاقات الصحية الشافية

في كثير من أساليب العلاج النفسي، تعتبر العلاقة العلاجية نموذجاً أولياً صحياً للعلاقات عموماً. كثير من طالبي المشورة لم يصادفوا من قبل علاقة حميمة أمنة بها قدر مناسب من الثقة والاحترام والحدود الصحّية و القدرة على الاشتراك في الوجدان والفهم العميق. وبسبب ذلك الفقر في العلاقات الصحية، تكونت لديهم مفاهيم مغلوطة عن الحب والرعاية والاهتمام. من الطبيعي أن مثل هذه المفاهيم المغلوطة تظهر في العلاقة العلاجية. على سبيل المثال، قد يرغب طالب المشورة في أن يكون محور اهتمام المشير فلا يهتم بأحد غيره، أو أن يكون المشير متاحاً له في كل وقت، أو أن يقدم له دائماً النصح والتوجيه في كل شيء ولا يدعه يحتار ويصل للقرارات بنفسه. يجب على المشير أن يتفهم وجود مثل هذه الرغبات، و يحاول تغييرها بصبر ومن خلال تقديم نموذج مغاير أكثر صحة.

كما أنه من الطبيعي أن يُسقِط طاب المشورة على المشير احتياجه الطفلي للأب أو الأم أو رغبته السحرية في أن يجد شخصاً كاملاً مختلفاً عن الأشخاص "السيئين" الذين يتعامل معهم في حياته اليومية. إذا تجاوب المشير مع هذه الرغبة ووافق أن يجعل نفسه ذلك الشخص الكامل الصالح في مقابل الآخرين الأشرار مثل الأب أو الأم أو المدير في العمل أو أحد الأصدقاء. فهذا يقدم نموذجاً مريضاً للعلاقات ورؤية غير ناضجة للبشر. ولا يساعده أن يحاول أن يتفهم دواقع واحتياجات الآخرين ويدرب نفسه على فهمهم وقبولهم ومحاولة احترامهم واحتمالهم. في واقع الأمر، المشير الذي يستسلم لهذه الرغبات لدى طالب المشورة، غالباً ما يكون لديه، هو نفسه، احتياج عاطفي غير مسدد أو رغبة اعتمادية في أن يكون الشخص الكامل أو المنقذ الذي يحمي البشر الضعاف من شر الأشرار الآخرين!

ختاماً ربما يمكننا أن نقدم بعض التعريفات عن العلاقة العلاجية السليمة على غرار الرسوم الكاريكاتورية التي كان يقدمها مصطفى حسين لسنوات طويلة في جريدة الأخبار تحت عنوان "الحب هو:" فنقول العلاقة العلاجية هي:

- العلاقة التي تساعد طالب المشورة أن يرى نفسه والآخرين رؤية واقعية بدون تضخيم للعيوب أو تجاهلها وذلك من خلال علاقة مع مشير أو معالج يرى عيوبه ويحتمل نفسه بهذه العيوب ويحاول أن يتغير.

- العلاقة التي تساعد طالب المشورة أن تكون له علاقة أفضل بنفسه، فيؤمن بقوتها وضعفها ويثق في قدرته على اتخاذ القرارات والالتزام بها.

- العلاقة التي تجعل طالب المشورة يستطيع أن يثق بنفسه و يشك فيها في نفس الوقت، ويتوقع أن تتصحح أفكاره وتتغير كلما زادت درجة وعيه بحقيقة ما يدور بداخله من صراعات وكلما زادت قدرته على مراجعة أفكاره وتصحيحها.

- العلاقة التي تجعله/ تجعلها تصنع اتزاناً بين احتياجها للآخرين وقدرتها أن تعتمد على نفسها. أي أن تصنع علاقات اعتماد متبادل Interdependencyدون اعتمادية متواطئة Co-dependency أو استقلالية تجنبيةAvoidant Counter-dependency

- العلاقة التي تساعدها/ تساعده أن يبني علاقات بالآخرين، بها رؤية واضحة للعيوب والمزايا دون تأليه أو تحقير، وبها قدر صحّي من الثقة والاحترام والقدرة على الفهم والتعبير عن المشاعر والتحكم في الغضب و الخوف والانجذاب وغيرها من المشاعر.

- العلاقة التي تساعده/ تساعدها أن تصنع علاقات بها إحساس بالآخرين و القدرة على الدخول في عالمهم ورؤية العالم من منظورهم.

- العلاقة التي تساعده/ تساعدها على احتمال أخطاء الآخرين و إعطائهم فرص جديدة و تقديم الغفران لهم عندما يخطئون.

- العلاقة التي تتحدى طالب المشورة أن يسدد احتياجاته الروحية من خلال علاقة أبوية متزنة مع الله، دون روحنة تغييبية أو عقلنة متشككة .

- العلاقة التي تعلمه/ تعلمها من خلال النموذج والقدوة أن الحياة الروحية ليست فقط حياة تسديد الاحتياجات الروحية للحنان والتعزية وإنما هي حياة التدريب والتغيير لاختبار أبعاد أعمق من نعمة العلاقة مع الله و دعوته للإنسان أن يعيش الخليقة الجديدة.

المتابعة

من الضروري جدا أن يكون المشير قادراً على المتابعة المستمرة للعلاقة المشورية ــــ متابعة تحقيق الأهداف المشورية. لمتابعة الأهداف ينبغي تحديدها من البداية. من أمثلة الأهداف التي يمكن وضعها في البداية، تصحيح أخطاء التفكير و مقاومة الأفكار السلبية التلقائية، أو تحسين علاقة، أو توقف عن سلوك قهري أو التحكم في طريقة التعبير عن الغضب. بالإضافة لمتابعة تحقيق الأهداف من الضروري أيضاً متاعبة تقدم المشير على كافة الأصعدة الروحية والنفسية والاجتماعية، أيضاً متابعة المشير نفسه لنفسه ومن خلال علاقة إشرافية مع مشيرين آخرين.

أخيراً، يقدم ماكمن هذا الرسم لتوضيح تصوره لمنظومة تستهدف الصحة الروحية والنفسية المتكاملة للفرد والجماعة المسيحية. في الأساس يضع ثلاث أحجار وهي الفهم اللاهوتي والفهم النفسي والروحانية. و هو يضعهم على قدم المساواة. في واقع الأمر إنني أميل شخصياً لوضع المفاهيم اللاهوتية في المنتصف مع التركيز عليها كمحور للمنظومة كلها لأن الفهم اللاهوتي السليم هو الذي من شأنه أن يحمي الروحانية من أن تتحول إلى منظومة من الأفعال الخارجية التي نفعلها لنرضي أنفسنا أو الآخرين أو تتحول إلى روحنة أو إلى إساءات روحية. الفهم اللاهوتي للخلاص بالنعمة يحمي الروحانية من أن تتحول إلى ممارسات مضرة للنمو الروحي المتكامل. حيث من الممكن أن نظن أن ناموس الوصايا هو مصدر الخلاص والتغيير. وهنا أحب أن أقتبس مقولة لدالاس ويلارد التي يتكلم فيها عن الناموس باعتباره مسار البر وليس مصدره Not the Source of rightness but the Course of it

على الجانب الآخر يحمينا الفهم اللاهوتي السليم من ابتلاع مفاهيم فلسفية غير مسيحية تشبعت بها المدارس النفسية و أثرت في نظرياتها وتقنيات ممارستها للعلاج دون أن ندري ذلك، ويؤثر ذلك على نمونا الروحي. كما أن اللاهوت يذكرنا دائماً بالحاجة للروحانية والتدريبات الروحية لأنه يذكرنا بفسادنا الذي لا يصلحه إلا ناموس الله كمسار للبر بنعمة وقوة الروح القدس الساكن فينا وأن المبادئ النفسية وحدها لن تغيرنا ذلك التغيير الشامل المتكامل. لذلك أنا أرى أن اللاهوت الكتابي هو بمثابة المفتاح الذي يضمن ثبات وصحة منظومة التكامل برمتها.

ثم يبني على هذا الأساس العناصر الثلاثة للصحة الروحية والنفسية وهي الوعي السليم بالنفس و بالاحتياجات و بالعلاقات الصحية مع الآخرين. داخل الوعي السليم بالنفس، يمكن أن نضع أشياء عديدة مثل فحص الأفكار و متابعة السلوكيات الذي تصر عليه المدرسة المعرفية السلوكية، و التواصل مع الخبرة الداخلية والتعبير الحر عن المشاعر الذي تصر عليه المدارس الإنسانية. ثم الوعي السليم بالاحتياجات والعلاقات الصحيحة الذي تنادي به المدارس الديناميكية التي تؤمن بأن الشفاء ينبع من العلاقات الصحية.

أخيراً هذا البناء المتزن المتكامل يجعلنا قادرين أن ننطلق في مواجهة التحديات التي تقابلنا في عملية التكامل للوصول إلى صحة نفسية وروحية متكاملة للفرد والمجتمع المسيحي.



[9] Dallas Willard, The Spirit of the Disciplines (San Francisco: Harper Collins, 1988), 18

[10] G. R. Collins, The Rebuilding of Psychology (Wheaton, Illinois: Tyndale House, 1977),

[11] Everett Worthington, Jr., “Religious Counseling: A review of Published Empirical Research,” Journal of Counseling and Development 64 (1986): 421- 431

[12] Propst et al., “The Comparative Efficacy of Religious and Non-religious Cognitive Behavioral Therapy,” Journal of Consulting and Clinical Psychology,94- 103.

[13] Propst, “The Comparative Efficacy of Religious and Non-religious Imagery,” Cognitive Therapy and Research, 167-178.

[14] كما هو الترابي هكذا الترابيون ايضا.وكما هو السماوي هكذا السماويون ايضا. وكما لبسنا صورة الترابي سنلبس ايضا صورة السماوي.

فاقول هذا ايها الاخوة ان لحما ودما لا يقدران ان يرثا ملكوت الله.ولا يرث الفساد عدم الفساد. (1كو 15: 48- 50)

[15] Richard J. Foster, Celebration of Discipline: The Path to Spiritual Growth (San Francisco: HarperCollins, 1988),33.

Thursday, February 15, 2007

تاريخ التكامل بين علم النفس واللاهوت

مما لا شك فيه أن علم النفس واللاهوت لديهم تاريخ طويل من الصراع. ذلك الصراع ليس حديثاً ولكن تم التعبير عنه بأكثر قوة في العصر الحديث من خلال كتابات فرويد: الطوطم والتابو (1913) وموسى والتوحيد (1937) في هذين الكتابين، قام فرويد بتقديم تفسيرات نفسية لكل روايات العهد القديم. في كتابه الأشمل مستقبل وهم (1927) وصف فرويد الدين باعتباره مرض عصابي[1] وسواسي أصاب البشرية كلها. كانت الفرضية الأساسية لفرويد هي أن الإنسان هو الذي صنع الله على صورته وليس العكس. يرى فرويد أن الإنسان جسد آماله وأحلامه في الأبوة والاحتواء التي لم يحصل عليها بشكل كامل من الأب، في ذلك "الأب السماوي" الذي رسم فيه كل أحلام الحب والحنان والاحتواء والمسئولية. وراح يمارس محاولاته للاقتراب ولإرضاء هذا "الأب" الوهمي من خلال الدين. في هذا الكتاب تمنى فرويد أن يأتي اليوم الذي يقضي فيه العلم على ذلك الوهم العصابي.

ويضيف فرويد أنه عندما تتهاوى سلطة الأب أو يستطيع الفرد أن يتخلص من رغبته في إرضاء الأب فإنه غالباً ما يفقد إيمانه. وهذا في رأيي صحيح جزئياً وهو يفسر كيف أن الكثيرين من الشباب يفقدون إيمانهم بعد فترة، لكون إيمانهم كان مشوباً بالكثير من الرغبات العصابية في إرضاء الأب أو الحصول على أب بديل أكثر قرباً وحباً من الأب الأرضي، وعندما يتجاوز الشباب هذه المرحلة ويتخلون تدريجياً عن شوقهم للأب ويستبدلونه بعلاقات حميمة أخرى في الزواج مثلاً فإن حرارة إيمانهم تنطفئ. وأظن أيضاً أن الدين والروحانية يمكن أن يلعبا دوراً آخر وهو التسامي بالرغبة الجنسية في مرحلة المراهقة والشباب المبكر و ذلك ربما يكون أحد أسباب ضعف الحرارة الروحية لدى كثيرين بعد الزواج.

لكن بالرغم من أن هذه التفسيرات ربما تحمل بعض الحقيقة، إلا أننا لا يمكن أن نحكم على الدين أو العلاقة الروحية مع الله ، من خلال تصرفات البعض الذين يتعاملون مع هذه الأمور بطريقة عصابية. فهناك أمثلة كثيرة على الجانب الآخر لأشخاص أثرى إيمانهم العميق حياتهم و حياة من حولهم، بل والبشرية كلها. إننا لا يمكن مثلاً أن نعتبر أن خدمة الأم تريزا كانت محاولات منها لإرضاء أبيها! أو أن القس بيلي جراهام ظل يربح الملايين للمسيح حتى تجاوز الثمانين من عمره كمحاولة للتسامي بغرائز العنف أو الجنس اللاواعية!

لم يكن فرويد هو الوحيد بين علماء النفس الذين كانت لديهم رؤية سلبية للدين، فأغلبهم يرى أن الدين "عكازاً" يتوطأ الناس عليه أو دفاعاً يحتمون به من مواجهة تحديات الواقع.

ليس الصراع بين علم النفس والدين صراعاً وهمياً فهناك افتراضات تقوم عليها أغلب مدارس علم النفس، هذه الافتراضات غير متفقة مع المفاهيم اللاهوتية المسيحية، مثل سقوط الإنسان أو معنى الصحة ومعنى الألم وغير ذلك. لذلك فإنه في واقع الأمر، دخل علم النفس إلى الكنيسة عن طريق الجانب الأكثر ليبرالية منها، بينما ظل الجانب الأكثر محافظة يتشكك من علم النفس إلى يومنا هذا.

هل هناك أرضية مشتركة بين علم النفس والدين بما فيه من لاهوت (فكر ديني) وروحانية (ممارسة الحياة الروحية)؟

أولاً: لا يجب أن ننسى أن علماء النفس واللاهوتيون يدرسون نفس الموضوعات ألا وهي السلوك الإنساني والقيم والمبادئ العليا والتوجهات الإنسانية. والعلاقات الإنسانية والزواج والأسرة وغيرها. كما أنهم جميعاً يهتمون بقضايا مشتركة مثل الصحة والمرض والوحدة والقلق والفقد والإحباط.

ثانياً: كل من علم النفس واللاهوت لا يمكن اثبات فرضياته أو استنتاجاته بطريقة إمبريقية تجريبية. فلا يمكن إجراء إشعات أو تحاليل لإثبات شفاء مريض نفسي. الأمر لا يزال يعتمد على الخبرة الشخصية للمريض التي يحاول الطبيب أن يستمع إليها بطريقة تحاول أن تكون موضوعية ومحايدة. الأمر نفسه في الخبرة الروحية، فلا يمكن التأكد بالبرهان المادي على "تجديد" أو إيمان شخص أو امتلاءه بالروح القدس أو وصوله إلى درجة ما من النضج الروحي!

ثالثاً: الدين مثل علم النفس يستخدم "نماذج" لكي يشرح بها الحقيقة المجردة. والنموذج هو صورة أو رمز أو مثال بسيط لشرح حقيقة عميقة ومعقدة. يقدم تيد بيترز[2] التعريف التالي للرمز اللاهوتي:

الرمز هو أداة للتعرف على الحقيقة. يعمل الرمز كمنشور ضوئي يحلل عناصر الضوء الأبيض التي هي موجودة ولكنها غير منظورة بدون المنشور. هكذا فإن ا لرموز تقع عند التقاء الحياة اليومية العادية مع الأسئلة الوجودية العميقة التي نجد أنفسنا بعدها إما أمام الله أو أمام العدم. هذه هي نقطة الالتقاء بين المعرفة الإنسانية المحدودة والحقيقة غير المحدودة. تقف الرموز مهتزة فائضة بالحياة عن نقطة التوتر بين الظاهر والخفي، بين العادي والمتسامي. لذلك فإن هذه الرموز لا تموت لأنها هو وحدها التي تحررنا من أسر الحياة العادية وتنقلنا برفق من الحياة في هذا العالم المنظور إلى الحياة في العالم الآخر دون أن نحتاج أن نترك هذا العالم الحاضر.

عندما يستخدم الكتاب المقدس رموزاً للإشارة إلى الله مثل الراعي أو الملك أو القاضي العادل أو الأب. أو الرموز المختلفة التي تشير للمسيح مثل الكرمة أو الصخرة أو الأسد أو الراعي الصالح أو الباب أو الطريق غير ذلك، فهذه نماذج بسيطة للإشارة إلى حقائق لاهوتية عميقة عن الله أبعد كثيراً من الرمز. علم النفس أيضاً يستخدم نماذج لشرح حقائق معقدة عن الإنسان. فالمدرسة التحليلية تستخدم نماذج مثل الأنا العليا والأنا و الهو أو العقل الواعي و اللاواعي. والمدرسة السلوكية تنظر للإنسان أنه آلة مسجل بها ردود أفعال تم تعلمها عبر تكرارالمثير والاستجابة. أيضاً السبب الذي يجعل الرموز متعددة ومختلفة، هو نفس السبب الذي يجعل النماذج النفسية متعددة أيضاً، ألا و هو أنها صور بسيطة تحاول أن تقدم وصفاً غير كامل لواقع روحي متساميً سواء كان هذا الواقع هو الله أو الإنسان المخلوق على صورته، وهذا دائماً يحمل خطورة الحرفية وسوء التأويل، فلا الإنسان آلة ولا المسيح صخرة !

رابعاً: نجد أن كلا من علم النفس واللاهوت نظامان يهتمان بعناصر مختلفة متداخلة ويمكن التعبير عن كل منهما بصور متعددة. فالخطية على سبيل المثال يمكن أن ننظر إليها باعتبارها أنها اختيار فردي حر ويمكن أن ننظر إليها أيضاً بوصفها حالة سقوط عامة للجنس البشري. أيضاً في المرض أو الاضطراب النفسي عناصر متعددة فيمكن وصف المرض النفسي أنه اضطراب بيولوجي أو أنه صراع نفسي أو مشكلة اجتماعية. لذلك فإن علم النفس أو طب النفس المعاصر قد وصل إلى وصف المرض النفسي أنه اضطراب بيولوجي، نفسي، اجتماعي Biopsychosocial وذلك لكون العناصر الثلاثة موجودة في كل اضطراب من الاضطربات. يوجد جانب بيولوجي في صورة اضطراب في اتزان الموصلات الكيميائية العصبية Neurotransmitters بالإضافة إلى دور واضح للعوامل النفسية الداخلية من صراع ورغبات مكبوتة ومشاعر غير معبر عنها وطرق تفكير مشوهة. أيضاً لا يمكن إغفال الجانب الاجتماعي مثل شبكة المساندة الاجتماعية للإنسان وحقيقة ما إذا كان متمتعاً بعلاقات مشبعة أو مضطربة يمكن أن تؤثر في مرضه أو تعافيه. بالإضافة لهذه العناصر الثلاثة، يمكن للمشير أو الراعي المسيحي أن يضيف العنصر الروحي أيضاً فالكثير من الأبحاث العلمية، وليس فقط الملاحظات الإكلينيكية، تؤكد على أن نوعية العلاقة بالله عنصر هام جداً سواء في المرض أو الشفاء.

هل التكامل ممكن؟

البعض يعتقد أن التكامل غير ممكن باعتبار أن بين علم النفس واللاهوت كثير من الاختلافات وأنهما ينتميان إلى رؤيتين مختلفتين للعالم. لكن يجب أن نتذكر أيضاً أن كل من النظامين يدرس ويتعامل مع نفس القضايا مثل السلوك والقيم و المشاعر و االعلاقات الإنسانية و في مرات كثيرة يحدث تداخل واضح بين أهداف كل منهما، لذلك أن يذهب كل منهما في طريقه وكأن الآخر غير موجود، أمر يضر الاثنين معاً.

ردود الأفعال للتكامل

1) هناك من يتجاهلون الأمر برمته مثل علماء النفس والأخصائيين النفسيين غير المؤمنين أو المسيحيين الذين يذهبون للكنيسة كل أحد، لكنهم لا يعبأون بمحاولة التكامل بين ما يسمعونه يوم الأحد وبين عملهم مع عملاءهم أثناء الأسبوع.

2) وهناك من يظنونه غير ضروري وربما يكون مضراً، من أمثال Jay Adams (1970) من بين هؤلاء أيضاً Tim LaHaye صاحب العديد من كتب المساعدة الذاتية مثل "الأمزجة البشرية وقدرة الله" و " كيف تقهر الاكتئاب" و هو كاتب له قراءه العديدون في مجتمعنا المسيحي العربي. مثل هؤلاء يرون أن الكتاب المقدس وحده فيه الكفاية للوصول إلى الصحة النفسية الكاملة بدون الحاجة إلى علم النفس.

3) مجموعة ثالثة ترى أن التكامل مهم وضروري، وبل وواجب على المؤمنين أن يعيدوا بناء علم النفس على قواعد فلسفية ولاهوتية كتابية وذلك لكون الله هو الحق فإن حقه المعلن في الكتاب لا يمكن أن يتعارض مع حقه المعلن في الطبيعة والذي تحاول العلوم كلها الوصول إليه. لذلك فهم يرون التكامل بين علم النفس واللاهوت هو واحد من أعظم التحديات التي تواجهنا والمجال الذي يجب على الكنيسة أن تطرقه لكي تتلامس مع البشرية المتألمة بصورة أكثر قرباً وأقل تحدياً. يقول جاري كولينز وهو من المنتمين لهذه المجموعة الرابعة في كتابه "علم النفس وعلم اللاهوت. إمكانيات التكامل."[3]

يفترض علم اللاهوت دائماً أنه مبني على التفسير الكتابي، لكنه كثيراً ما يعكس تبصرات إنسانية، وخبرات شخصية و ثقافية نسبية. لذلك لكي يكون اللاهوت أكثر موضوعية وبالتالي أكثر فاعلية، يجب أن يكون اللاهوتي المسيحي مدركاً إدراكاً أعمق بالسلوك الإنساني و طبيعة وتأثير ميول الإنسان و طرق تفكيره على استقبالاته المختلفة للأمور.

بكلمات أخرى، إننا لا نقرأ الكتاب المقدس في فراغ، إننا نقرأه وسط بحر من مشاعرنا وأفكارنا ومشكلاتنا الشخصية والمجتمعية، أو كما قال أحدهم، نحن نقرأه من خلال مخ غارق في مواد كيميائية تؤثر عليه كل لحظة. فإن كنا نريد أن نحمي فهمنا له من هذه التأثيرات، لا يجب أن نتخيل عدم وجودها، وإنما ندرس تأثيراتها لندرك كيف تؤثر هذه الأمور علينا لكي نستطيع أن نتعرف على فكر الله لنا من وسط هذه المؤثرات التي لا نستطيع أبدأً تحييدها. أليس غريباً أننا لا نجد مشكلة في دراسة جسم الإنسان من خلال العلوم الطبية، أما أهم جزء من الإنسان وهو عقله وسلوكه، نخاف من أن نتعامل فيه مع العلوم النفسية؟! لماذا افترضنا أن الله يسمح لنا أن ندرس جسم الإنسان من خارج الكتاب المقدس ولا يسمح لنا أن ندرس عقل الإنسان من خارج الكتاب المقدس، في الوقت الذي لا يقدم لنا الكتاب المقدس كثيراً عن نفس الإنسان وعقله بصفته كتاباً يتكلم أساساً عن علاقة الإنسان مع الله.

التكامل صعب لأنه يجعلنا دائماً نحاول أن نكتشف ما هي نقاط الاختلاف ونقاط الاتفاق ونعيش حالة مستمرة من التوتر الخلاّق عند المنطقة الوسطى التي فيها يتصل علم النفس باللاهوت. من السهل أن نميل نحو علم ونتجاهل الآخر، وهذه خسارة كبيرة، لأن الحقيقة هي أن الإنسان بأكمله يعيش في هذه المنطقة الوسطى. حيث يتأثر بعلاقته بالله واحتياجه إليه، حتى وإن لم يكن بعد في عل حقيقية معه. ويتأثر بعلاقته بالآخرين و ما يجدث فيها من اقتراب وابتعاد ومن حب ومن إساءات. كما يتأثر بعلاقته بنفسه وماضيه وتاريخه والشخصية التي أصبح عليها بسبب عوامل وراثية وبيئية مختلفة.

لذلك فإنني عندما أتكلم وأعلِّم في منطقة التكامل هذه غالباً ما أحصل على نوعين من ردود الفعل المعترضة. النوع الأول يعترض لكونه غير مستعد أن يستمع إلى أي مساهمة في اتجاه النضوج النفسي تكون مبنية على قواعد علم نفسية أو على مجهود بشري حتى وإن لم يكن متعارضاً مع المبادئ الكتابية. مثل هؤلاء يريدون أن يسمعوا فقط آيات كتابية أو كلام معزي عن كيف أن الروح القدس سوف يغير حياتهم بصورة معجزية وسريعة دائماً (ربما في عظة أو مؤتمر على الأكثر) دون أي مجهود منهم في فحص الأفكار أو إدارة المشاعر أو التعامل مع العلاقات. مثل هؤلاء يتجاهلون بشكل واضح وصية كتابية تقول: " تغيروا" وهذه الوصية كما هو واضح تفترض أن التغيير مجهود بشري أيضاً !

نوع آخر من ردود الأفعال التي أحصل عليه عندما أتكلم عن النضوج النفسي من منظور لاهوتي أو كتابي، هو التساؤل المعترض من بعض الأشخاص "المؤمنين" الذين يقولون: "هل معنى ذلك أن الشفاء قاصر على المؤمنين؟!" ويكون ردي دائماً هو: " بالطبع لا.. يمكن لغير المؤمنين أن يشفوا وينضجوا أيضاً. لكن إن كان الله موجوداً، وهو قد أعلن عن نفسه في المسيح ومن خلال مبادئ الملكوت، أليس من الطبيعي أن تكون "نوعية" الشفاء والنضوج التي لا تتجاهل هذه الحقائق الروحية، أفضل من تلك التي تتجاهلها وتتعامل مع الواقع على أنه واقع ماديّ وإنساني فقط؟! بالطبع هناك قدرة عند الإنسان، حتى وإن كان غير مؤمن، أن يعيش بشكل أفضل روحياً ونفسياً. كما أن الله يشرق شمسه حتى على غير المؤمنين، لكن أليس من المنطقي أن من يعيش علاقة "واعية" مع الله المثلث الأقانيم في إيمان وطاعة للمسيح وشركة مع الروح القدس، يمكنه أن يحصل على قوة فوق طبيعية للشفاء والنضوج؟! هذان النوعان من ردود الأفعال يعكسان مدى صعوبة ميدان التكامل هذا الذي نريد أن ندخله دون اعتساف أو ابتذال أو تبسيط مخلّ بأي من النظامين.

الهدف من التكامل؟

يقدم جاري كولينز هذه الأهداف للتكامل:

1) يمكن لكل من علم النفس واللاهوت أن يسأل كل منهما الآخر ويحفز كل منهما الآخر لمزيد من البحث والاكتشاف للحق الإلهي خصوصاً في مجال الإنسان.

2) التكامل يبقى التواصل مفتوحاً بين اللاهوتيين و علماء النفس لمزيد من الفهم للإنسان. لعل أفضل مكان لتحقيق هذا التواصل هو كليات اللاهوت حيث يجتمع كل من اللاهوتيين ذوو الاهتمام بعلم النفس وعلماء النفس المسيحيين ذوو الاهتمام اللاهوتي حتى يمكنهم معاً السعي لدراسة إعلان الله المتكامل في كل من الكتاب والطبيعة الإنسانية.

يمكنني أن أعطي مثالاً على هذا. لفترة انشغلت بمفهوم "الذكاء الوجداني" وأهميته في سلوك الإنسان وعلاقته فرحت أبحث عن كيف أجد هذا في الكتاب المقدس فوجد الكثير من الآيات مثل (أفسس 4: 26و مزمور 4:4) التي ربما لم أكن أفهمها بهذا الوضوح قبل أن يثيريني ذلك المفهوم النفسي و يدفعني لاكتشاف الحق الكتابي فيه. مثال آخر عن مفهوم الحدود في العلاقات وكيف يقدم بولس هذا التوازن بين الحفاظ على الحدود وفي الوقت نفسه الحفاظ على المحبة و العلاقات الحميمة داخل جسد المسيح عندما يقول في غل 6 " احملوا بعضكم أثقال بعض......كل واحد سيحمل حمل نفسه." [4]بالطبع يجب هنا أن نستخدم المبادئ الراسخة في التفسير الكتابي، حتى لا نلوي عنق الآيات الكتابية لتتوافق مع المفاهيم النفسية.عموماً، التكامل ليس أمراً سهلاً يتم من خلال دراسة كل من علم النفس وعلم اللاهوت أو قراءة كتب أو محاضرات عن التكامل. التكامل أمر لا يحدث إلا في قلب وعقل إنسان يكون متمرساً في الاثنين معاً. وأنا أقول عقل وقلب لا عقل فقط لأن التكامل يكون ناقصاً إذا لم يشتمل أيضاً على الروحانية الشخصية، وهذا سوف نواجهه عندما نتكلم عن تحديّات التكامل.

لكي يحدث التكامل يجب أن نبدأ من نقطة احترام كل من العلم بصورة والكتاب المقدس بوصفهما طريقتين للإعلان الإلهي. العلم هو محاولة دراسة إعلان الله العام في العالم المادي والبشري والاجتماعي. فالسموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه، هذه الإعلان تركه الله للبشر لكي يكتشفوه بطريقة تدريجية بحسب نمو وتراكم معارفهم جيلاً بعد جيل. الإنسان في هذا العمل يستخدم عقله بمعونة من عمل الله غير ا لمباشر الذي يعمل في كل من المؤمنين وغير المؤمنين. لكن هناك منطقة رأى الله أن البشر لن يستطيعوا معرفتها بأنفسهم وهي المنطقة الروحية الخاصة بطبيعة الله والعلاقة معه، لكون السقوط والخطية قد أعاقا قدرة الإنسان على ا لوعي الروحي، لذلك اختار الله أن يعلن هذه الأمور للإنسان بصورة أكثر مباشرة من خلال الإعلان الخاص أي بالتدخل الفدائي في التاريخ سواء من خلال شعب ينقذه من العبودية ويتكلم إليه بأنبياء وطرق متنوعة ثم في الأيام الأخيرة، يتكلم في ابنه الذي هو كلمته المتجسد، ثم يرسل روحه ليسكن في كل مؤمن بالمسيح لكي يعينه ويأخذ بيده ليعرف الله ويعيش حياة روحية معه. قدم جاري كولينز في كتابه إعادة بناء علم النفس[5] هذا الرسم التوضيحي الذي يفرق بين الإعلان العام والخاص.


نماذج التكامل

1. المرحلة الأولى (ما قبل الخمسينات)

في هذه المرحلة ظهرت بعض المقالات التي حاولت تقديم بعض المفاهيم ولكن لم يكن هناك تكامل بالمعنى المفهوم. ربما من أهم المجهودات في ذلك الوقت ما قام به كارل يونج (1938) إيريك فروم (1950)[6] و جوردون ألبورت (1950) [7]

2) المرحلة الثانية (اواخر الخمسينات والستينات)

في هذه المرحلة كان هناك أكثر من تناول لقضية التكامل بين علم النفس واللاهوت:

- كتابات بول تورنييه. تميزت كتابات بول تورنييه (1964- 1968) بالكثير من التبسيطية وتجاهل وجود صراع حقيقي بين علم النفس واللاهوت. على سبيل المثال كان تورنييه يقول أن التكامل يكمن في الله و أننا إذا استمعنا لله جيداً فإن التكامل سوف يتم بشكل تلقائي.

- كتاب " من هو الإنسان إذن؟ـ ندوة دراسية حول التكامل بين اللاهوت وعلم النفس والطب النفسي.[8] وكان هذا الكتاب نتاج عمل مشترك بين جماعة من العلماء اللوثريين يرأسم عالم نفساني اسمه بول ميل وهو رئيس سابق للهيئة الأمريكية للأخصائيين النفسيين. وفي هذا العمل ناقش ميل وفريقه عدداً من قضايا التكامل مثل: الشفاء بالإيمان، والذنب، والعلاج النفسي، والنعمة، والشخصية الإنسانية، والخطية الأصلية والمادية والضمير وغيرها. و في هذا الكتاب، اكد هذا الفريق ان اي محاولة لعمل تكامل بين علم النفس واللاهوت لا يمكن أن تتجاهل مثل هذه القضايا اللاهوتية الوجودية. كان هذا العمل محاولة شديدة الجدية للحوار بين علم النفس واللاهوت، ولكنه لم يكن تكاملاً حقيقياً بل كان بحسب تسمية جاري كولينز محاولة لجعل القطارين يسيران بجوار بعضهما البعض.

3) المرحلة الثالثة ( السبعينات)

ظهرت نماذج للتكامل استخدمت الكثير من الرسوم التوضيحية للشرح (نظرياً) كيف يمكن للمسيحية و علم النفس أن يتكاملا. قدمت هذه النظريات أفكاراً جيدة، ولكنها لم تقدم فائدة تطبيقية حقيقية.

التحليل الطبقي لبيوب Levels of Analysis (Bube 1971)

هذا التناول يحلل الوجود إلى طبقات متدرجة في التعقيد بحيث كل طبقة أعلى تحتوي كل الطبقات السابقة لها. بهذا المفهوم لا يمكن أن نقول أن الروحي يشتمل على النفسي والعضوي معاً داخله كما أن النفسي يشتمل على العضوي داخله وهكذا. يكتب بيوب قائلاً:

ليس ضرورياً فيما بعد الجدل إن كان اختبار التجديد المسيحي اختباراً نفسياً أم لاهوتياً فهذا الاختبار لا يمكن فهمه فهماً جيداً إلا إذا وصفناه كخبرة لاهوتية و نفسية في نفس لوقت.كما أنه له أيضاً أبعاد بيولوجية وبيوكيميائية وبيوفيزيائية أيضاً. أيضاً لا يجب الجدل إن كان الإنسان ماكينة أم كائن مخلوق على صورة الله. فالإنسان لا يمكن فهمه إلا إذا تم وصفه على أنه ماكينة و شخص مخلوق على صورة الله في آن واحد.

هذا النموذج يقترح صعوبة فصل الروحي عن النفسي لكون الاثنان حلقات تطورية في تكوين الإنسان. هذا يذكرني بالسؤال الذي يواجهنا كثيراً لتفسير السلوكيات الغريبة التي نراها في بعض الأشخاص: " هل هو مرض نفسي أم أم تأثير شيطاني فائق للطبيعة." الإجابة التي ربما يقدمها بيوب على سؤال مثل هذا، هي:الاثنان معا!"

هذه إجابة وامتناع عن الإجابة في نفس الوقت. وهذا يقودنا، مثلما كان يسوع يفعل، إلى التجاوب مع هذا السؤال بسؤال آخر وهو: " ما الغرض من السؤال عن طبيعة الحالة إن كانت نفسية أو روحية؟ ولماذا تريد التفريق؟ الأغلب أن الذين يسألون هذا السؤال يسألونه ليحددوا طريقة التعامل مع الحالة. هل نتعامل معها روحياً أم نفسياً؟ هذا السؤال يكشف عن الإيمان بالنظامين والتفسيرين، فهناك بالطبع من لا يسألون هذا السؤال مطلقاً و إنما سيختارون تفسيراً واحدا وً ذلك حسب الخلفية الطائفية واللاهوتية التي ينتمون إليها، فإن كانوا مثلاً من غلاة الخمسيين أو الرسوليين، فإنهم غالباً ما سيفترضون التفسير "الروحي"، وإن كانوا مصلحين محافظين وربما توقفيين[9] فإنهم غالباً ما سوف يرجحون التفسير "النفسي". أما من يتحيرون ويسألون هذا السؤال فهم غالباً من غير المتشددين من الجانبين والذين يؤمنون بكل من الأسباب الروحية والنفسية في نفس الوقت، لكن هذا السؤال وإن كان يحترم كلا النظامين، إلا أنه يعكس أيضاً غياب الفكر التكاملي بين النظامين في التعامل مع مثل هذه الحالات.

ماذا نفعل إذا صادفنا إنساناً يجرح نفسه ويهيم على وجهه في الشوارع والحقول مثل مجنون كورة الجدريين الذي شفاه المسيح؟ هناك من سوف يطبقون تلقائياً النموذج الكتابي و يفعلوا كما فعل المسيح (ظاهرياً)، فيصلون وينتهرون الروح الشرير ليخرج منه ويتم استرداد هذا الإنسان إلى الصحة النفسية والسلوك الهادئ العاقل المتزن. وهناك من سوف يتعاملون مع الموقف من منظور علم النفس أو الطب النفسي بصورة تلقائية، فالأمر لا يعدو كونه مريضاً نفسياً يحتاج للعلاج الذي هو ليس إلا علاجاً نفسياً بالعقاقير فقط أو ربما بإضافة بعض التقنيات النفسية أو السلوكية أو تقنيات إعادة التأهيل النفسية. لكن ماذا يفعل المسيحيون المؤمنون بالتكامل؟

قبل أن نسأل أنفسنا ماذا سنفعل، دعونا نعود إلى منظومة الإعلان العام والخاص. هناك الإعلان الإلهي العام في الخليقة المادية والإنسان جزء منها وهناك الإعلان الروحي الخاص الذي يتناول العالم الروحي غير المنظور بما فيه الله والشيطان والملائكة، والإنسان أيضاً جزء من هذا العالم ويتأثر به بصفته كائن روحي مخلوق على صورة الله.

Oval:                 العالم المادّي

في الوقت الذي خطا فيه المسيح على أرضنا. كان الإعلان الإلهي في ذروته فهو الابن الذي هو بهاء مجد الله ورسم جوهره و حامل كل الأشياء بكلمة قدرته. لكن اكتشاف الإنسان للإعلان العام (بمعنى الفهم العلمي للكون والطبيعة والإنسان) كان لا يزال يحبو في ذلك الوقت. فعندما تقابل المسيح، الإنسان الكامل، روحياً ونفسياً واجتماعياً، المدخر فيه كل كنوز الحكمة والمعرفة والعلم مع شخص مضطرب روحياً ونفسياً وجسدياً مثل مجنون كورة الجدريين. شفاه من تأثير الأرواح الشريرة ومن الصراع والمرض النفسي ومن آثار الرفض والعزل الاجتماعي الذي كان يعاني منه بسبب سلوكه. لقد كان لقاء مع الله، فمن الطبيعي أن يشفى هذا الإنسان ! الصورة الظاهرية المقبولة ثقافياً في ذلك الوقت هي أن المسيح انتهر الروح الشرير فشفي الإنسان. لكن الواقع الروحي الداخلي هو أن ملكوت الله بكل قوته وحكمته وحبه وحنانه قد لمس ذلك الإنسان.

حالة من الوجود الأسمى من الوجود الإنساني تلامست مع كيان إنساني مريض، فشفته. كان يسوع يقول أنه ليس من هذا العالم، أما نحن فمن هذا العالم. وقال أيضاً: " إن كنت أنا بإصبع الله أخرج الأرواح الشريرة فقد أقبل عليكم ملكوت الله."

هذا العمل السري المتكامل، لم يكن ممكناً التعبير عنه في ذلك الوقت إلا بالتعبير الشائع المقبول ثقافياً في ذلك الوقت وهو التركيز فقط على الجانب الروحي من الشفاء المتكامل، كعادة الإنسان أن ينسب الذي لا يعرفه للجانب الروحي غير المرئي، فلم يكن ممكناً أن يقال مثلاً: " إن هذا الشخص يعاني من اضطراب نفسي لكن العلم لم يتوصل بعد لأسبابه !" فهذه العبارة تحتاج إلى تقدم علمي كبير لكي نقولها ولكي نفهمها ونستوعبها! لكن المسيح شفاه شفاء كاملاً لأن كل إعلان الله كان مذخراً فيه، أي مختبئاً وغير ظاهر تماماً. الإعلان العام الذي كان على البشر أن يكتشفوه كان مذخراً في المسيح بوصفه الكلمة (أي العقل الإلهي العام الذي به خلق العالمين) بالإضافة للإعلان الخاص عن طبيعة الله ومحبته وغفرانه، بوصفه أيضاً الابن الذي هو في حضن الآب.

بعد صعود المسيح للسماء وإرسال الروح القدس، أخذ الإعلان الخاص أيضاً خطوة للإمام حيث أصبح الروح القدس في كل مؤمن ويعطي بعض المؤمنين مواهب روحية مثل تمييز الأرواح و إخراجها. أي أن الروح القدس يستطيع أن ينقل قدرة المسيح على ا لتعامل مع الموقف هنا والآن من خلال المؤمن كما لو كان المسيح موجوداً بالجسد خطوة قال المسيح أنها أفضل، لذلك قال لتلاميذه أنه خير لهم أن ينطلق. وأن الأمور التي كان يفعلها، سوف يفعلون مثلها وأفضل منها. أيضاً بعد مرور آلاف السنين تطور الإعلان العام واكتشف البشر جزءاً كبيراً من العلم المذخر في عقل الله وحصل على فهم أعمق وأشمل للإنسان وما يدور فيه بيولوجياً ونفسياً.

هذا هو الموقف الآن ـــ الروح القدس ومواهبه في المؤمن ويمكن من خلال الصلاة أن يتعامل مع التأثير الروحي الشيطاني تماماً كما كان يفعل المسيح. و الإعلان العام أصبح على درجة من النضج ويمكن للإنسان أن يستخدمه لشفاء الإنسان بيولوجياً ونفسياً، و أيضاً الكنيسة، كمجتمع شافي يقبل الجميع بلا شروط، تستطيع أن تلعب دوراً بارزاً في شفاء الإنسان اجتماعياً ــــ ماذا علينا أن نفعل إذن؟ أعتقد أن علينا أن نمارس كل هذه الأمور معاً ً، لأن هذه هي إرادة الله ـ أن نستخدم كل ما وصلنا من إعلان خاص وعام، لتمييز والتعامل مع الإنسان ككل متكامل بيولوجياً، ونفسياً، واجتماعياً، وروحياً.

إن كانت هذه هي رسالة التكامل، فهذا يعني أن نتعامل بالطرق الروحية (كالصلاة) والطرق البيولوجية و النفسية كلها معاً دون اختلاط أو امتزاج أو تغير. يجب أن تراعي الممارسات الروحية، وجود مرض أو مشكلات نفسية كما يجب ألا تغفل التقنيات النفسية، جانب الصراع الروحي في حياة المريض. لكن قبول فكرة وجود الاثنين معاً لا يعني عدم تأثرهما ببعضهما البعض ولا يعني تطبيق الممارسات الروحية والنفسية معاً بطريقة"القص واللصق" وبدون بذلك مجهود تكاملي!

ما هو هذا المجهود التكاملي؟ على سبيل المثال عندما نقبل الصلاة كأسلوب للتعامل مع المريض النفسي، فهذا لا يعني أننا نقبل كل ألوان الصلاة و طرقها. فإيماننا بالعناصر النفسية في القضية، يجعلنا نفضل أحياناً الصلاة "من أجل" المريض بدلاً من الصلاة "معه". وفي أحيان أخرى نفضل الصلاة معه بدلاً من الصلاة "عليه" لإخراج الأرواح الشريرة! وعندما نقبل التفسيرات النفسية للحالة التي عليها المريض، فهذا لا يعني أننا ينبغي أن ننكر احتياجه لله ودور الخطية والسقوط في الصراع النفسي والعلاقاتي الذي يعانيه، لكن الطريقة التي نقدم بها رسالة الخلاص لهذا الشخص بالطبع يجب أن تراعي الحالة النفسية التي يمر بها.

النموذج التكاملي لكارتر/موهلين Integrated Models Approach John Carter/R.Mohline 1976

ُبنى هذا النموذج على ثلاث فرضيات:

1) كل الحق هو من الله. الإعلان العام (في الخليقة) لا يتعارض مع الإعلان الخاص(في الكتاب) بل يتكاملان باعتبار أن مصدرهما واحد وهو الله.

2) علم اللاهوت هو الإعلان الإلهي عندما يترشح من خلال أوساط إنسانية مثل اللغة والفكر و الثقافة الإنسانية يمكن للإنسان أن يفهمها لكونه يركز أساساً على طبيعة الإنسان وبرنامج الله من أجله.

3) علم النفس هو علم يختص بالتقنيات التي يعمل بها الإنسان والطرق التي يمكن بها قياس كيف يعمل الإنسان.

بعد دراسة عدد من المراجع اللاهوتية والنفسية، وصل كارتر وموهلين إلى ثمانية موضوعات متوازية لكل من النظامين

مجال علم اللاهوت مجال علم النفس

* لاهوت الملائكة * الظواهر النفسية غير التقليدية

* لاهوت المسيح/ الروح القدس * المشير/ المعالج

* لاهوت الإنسان * نظرية الشخصية

* لاهوت الخطية * نظريات المرض النفسي/ العلاج النفسي

* لاهوت الخلاص * النضوج النفسي

* لاهوت الكنيسة * علم النفس الاجتماعي (المجتمع العلاجي)

* لاهوت الأخرويات * علم النفس المجازاة

.


في كتابه " المشورة الكتابية الفعالة" (1977) يقدم لاري كراب الابن ثلاث تناولات تاريخية للتكامل ثم يقدم اقتراحاً رابعاً. التناول الأول هو "متساوون لكن منفصلون" الذي يقضي بأن لكل نظام مجاله دون تداخل. شعار هذا التوجه هو دعوا اللاهوتيون يتعاملون مع القضايا اللاهوتية والعلماء النفسيون يتعاملون مع القضايا النفسية. يرفض كراب هذا التناول لأن هناك، كما أشرنا سابقاً، موضوعات مشتركة بين النظامين مثل الذنب وعدم الأمان وقبول النفس وغيرها. أما التناول الثاني فهو ما يسمى " بالسلاطة" أي أن التكامل هو طبق سلاطة يقوم كل مشير أو راعي بتشكيله كما يريد بوضع ما يحب من النظريات والتقنيات النفسية مع الأفكار والاستبصارات اللاهوتية والكتابية التي يراها. يرى كراب أن هذا التوجه يمزج الإلهي مع العلماني دون وعي ناقد. المشكلة المحورية في التكامل بطريقة السلاطة ليست هي أن علم النفس العلماني ليس لديه ما يقدمه وإنما المشكلة هي في القبول المهمل غير الناقد للأفكار العلمانية ما يؤدي بالممارس أن يفرط دون أن يقصد أو يدري في المبادئ والعقائد الكتابية ( 1977، ص 39). التناول الرابع يسميه كراب تناول الـ " ما هو إلا.." و فيه يعتبر علماء النفس أن الدين ما هو إلا أحد ألوان علم النفس البدائي وبالتالي يفسرون كل الخبرات الروحية تفسيراً نفسياً. أو أن يعتبر اللاهوتيون أن علم النفس ما هو إلا إعادة صياغة لمبادئ موجودة بالفعل في الكتاب المقدس وبالتالي لا حاجة لعلم النفس. هذا التوجه فيه يتجاهل كل جانب اسهامات الجانب الآخر ويرى الدنيا من منظوره هو فقط، فيتجاهل جانب من جوانب عمل الله.

التناول الذي يقدمه كراب يسميه "سلب المصريين" في إشارة إلى المكتوب في سفر التكوين أن بني إسرائيل أخذوا من مصر ما كانوا يحتاجون إليه في رحلتهم إلى البرية (خر 3: 22) ويقترح كراب أن شعب الله لكي "يسلب" علم النفس العلماني يجب أن يتبع مبدئاً أساسياً و هو ً أن يجعل من الكتاب المقدس المقياس المعصوم الذي به يقيس علم النفس، بمعنى عدم قبول النظريات والتقنيات النفسية التي لا تتفق مع الكتاب المقدس. بالطبع يتفق جميع المؤمنين بوحي الكتاب المقدس مع هذا التوجه، لكن للأسف لا يقدم كراب أكثر من ذلك !

نموذج إعادة البناء لكولينز The Rebuilding Approach. Collins 1977

في كتابه " إعادة بناء علم النفس"[10] يقدم كولينز نموذجه في صورة محاولة لإعادة بناء علم النفس من جديد.

يبدأ كولينز بإقرار أن المؤمن يجد نظامه الفلسفي في الكتاب المقدس ليس فقط لأنه "الكتاب المقددس" ولكن لكونه قد أثبت بالخبرة العملية أنه الأفضل. ربما لا يعتبر المؤمن المسيحي أن النظام الفلأا النظام الفلسفي في الكتاب المقدس يملك كل الإجابات فهو، أي المؤمن المسيحي، لا يرى أن الكتاب المقدس "هو الحل!" ولا يبحث عن "الإعجاز النفسي" في الكتاب المقدس. لكنه فقط يرى أنه الأفضل. أي أنه أفضل نظام فلسفي مدعوم بأدلة متنوعة، ومتسق مع نفسه، وقادر أن يقدم معنى متكامل للوجود.

وعندما يدخل كولينز هذا المدخل، يجد نفسه مضطراً للانتقال إلى مجال الدفاعيات، وهو لا يرى بأساً من ذلك في إطار نظريته الموسعة للتكامل. وهكذا نجده يقدم أولاً أدلة من الخبرة الشخصية. يهتم عصر ما بعد الحداثة الذي نعيشه بعنصر الخبرة الوجودية الشخصية كأحد أهم روافد الحقيقة. ولكن لا تقتصر الخبرة الشخصية فقط على الأحاسيس الطيبة التي يقدمها الإيمان للإنسان فكثير من الأحاسيس الطيبة والخبرات الذاتية يمكن أن تكون منافية للواقع والعاملون في مجال الاضطراب النفسي هم أدرى الناس بذلك، ولكن آلاف القصص تشهد عن تغيير حقيقي في الشخصية، يمكن للمحيطين أن يلمسوه في الشخص الذي يؤمن بإله الكتاب المقدس أو يتخذ من ذلك النظام الفلسفي اللاهوتي محوراً لنظرته للعالم. على سبيل المثال كان ألبرت إيليس مؤسس مدرسة العلاج المنطقي ملحداً صريحاً و كان في السبعينات من القرن العشرين يهاجم الدين بشدة في حواراته العلاجية معتبراً إياه عقبة في سبيل الصحة النفسية. إلا أنه من المثير للعجب أن إيليس نفسه في مقال نشر سنة 1993 وصف الكتاب المقدس أنه، ككتاب للمساعدة الذاتية self-help قد ساعد عدداً من الناس للوصول إلى تغييرات شاملة و عميقة في شخصياتهم أكثر ممن ساعدتهم كل مدارس العلاج النفسي مجتمعة[11].

ثم ينتقل كولينز من نطاق الخبرة الذاتية الأضعف إلى نطاق الأدلة المنطقية الأكثر قوة،حيث يحتكم إلى المنطق أو العقل العام الأكثر موضوعية من الخبرة الذاتية. في واقع الأمر لم يقدم كولينز الكثير من الأدلة المنطقية. لذلك سأحاول أن أقدم بعض الأدلة المنطقية التي أراها مقنعة لي شخصياً في صراعي مع الشك والإيمان بالفرضيات المسيحية. يتفق كل دارسي الكتاب المقدس على أن الفرضية الأساسية للمسيحية التي تقوم بقيامها وتسقط بسقوطها، هي تاريخية قيامة المسيح. فإن كان المسيح قد قام تكون كل فروض المسيحية سليمة وإن لم يكن قد قام بالفعل بالجسد. فلا قيمة للإيمان به وبصليبه كما يقول الرسول بولس في رسالة كورنثوس[12]. يكاد يتفق جميع البشر أن يسوع المسيح شخص فريد كان له عميق التأثير فيمن حوله فصدقوه. قال لهم أنه ابن الله فصدقوه، قال لهم أنه سيموت ويقوم في اليوم الثالث، فصدقوه. لم يكن غريباً أن يؤثر عليهم ذلك الشخص صاحب "الكاريزما" القوية، حتى ولو لم يكن صادقاً، و حتى لو كان واهماً مضللاً فكم من شخص مختل عقلياً أثر على جماعات كبيرة من الناس وجعلهم يصدقونه. أيضاً ليس كافياً لتصديق القيامة أن يستمر تلاميذ المسيح في تصديقها حتى بعد موته، لأنه من الممكن أن تكون الضلالة قد "زرعت" في أذهانهم وتتحكم فيهم حتى بعد اختفاء المسيح من الصورة. كل من يعمل في مجال المشورة والمساعدة النفسية، يرى كيف أن معظم الناس يستمرون في تصديق الرسائل السلبية التي كان آبائهم وأمهاتهم يوجهونها لهم حتى بعد وفاة هؤلاء الآباء والأمهات، فهذه الرسائل قد زرعت في وعيهم و أصبحت جزءاً من منظومة تفكيرهم ورؤيتهم لأنفسهم. أيضاً ليس كافياً للإيمان بصدق القيامة أن نجد أن هؤلاء التلاميذ لا يكتسبون شيئاً من هذا الإيمان الذي ينادون به، فلا يصيرون قادة عسكريين أو يفتحون بلاداً أو يغتنمون غنائماً، وإنما يموتون من أجل إيمانهم، فكم من أشخاص مضللون ماتوا من أجل ضلالات كانوا يظنونها الحقيقة!

ما هو إذن البرهان المنطقي على صدق القيامة؟!

يكمن البرهان المنطقي في كون التلاميذ قد مروا بفترة من عدم التصديق عندما صلب المسيح ومات. كان هؤلاء التلاميذ، بحسب إيمانهم اليهودي يعتقدون أن المسيح متى جاء لا يموت، دون أن يدركوا النبوات التي تقول أنه سوف يأتي ويموت أولاً ثم يقوم ويصعد إلى السماء باعتباره الله المتحد بالإنسان ليرفعه من الوجود المادّي إلى درجة أعلى من الوجود في العالم الآخر، و أنه لكي يقوم بذلك سوف يموت ويقوم ليكون "باكورة" أي البكر في هذا الوجود الجديد. كل هذا لم يدركه تلاميذ المسيح وقت الصليب وبعد القبر، ففي إنجيل لوقا[13] نقرأ قصة اثنين من هؤلاء التلاميذ كانا منطلقين بعد دفن المسيح إلى قرية اسمها عمواس ويتكلمان معاً في الطريق عن يسوع هذا الذي كانا يظنون أنه هو المسيح المزمع أن يفدي إسرائيل، لكن له اليوم ثلاث أيام في القبر!

بعد موت المسيح، تشتت كل التلاميذ خوفاً من اليهود وفقدوا إيمانهم بأن يسوع هذا هو المسيح. ثم فجأة نجد إيمانهم بالمسيح يعود أقوى مما كان و بشجاعة منقطعة النظير يتحدون اليهود معلنين أن يسوع قام من بين الأموات ! كيف عاد إليهم إيمانهم المفقود؟ لو كانوا لم يفقدوا إيمانهم أبداً، لكان من الممكن أن نعتبر أن الضلالة التي زرعها يسوع في أذهانهم مستمرة في السيطرة عليهم، لكن بعدما فقدوا إيمانهم ثم عاد إليهم إيمانهم فإن المنطق يقول أنه ينبغي أن يكون قد حدث شيئاً كبيراً يعيد لهم إيمانهم المفقود. بل أكثر من ذلك ، يخبرنا الإنجيل أن شخصاً يدعى يعقوب، وهو أحد اخوة يسوع الذين لم يكونوا يؤمنون به[14] واستمروا لا يؤمنون به حتى موته على الصليب، فجأة أصبح مؤمناً بقيامة المسيح وأصبح أحد أهم المنادين بقيامته حتى مات شهيداً لهذا الإيمان!

الإجابة التي يقدمها الكتاب المقدس، هي أن المسيح قام بالحقيقة! [15] ليكون "باكورة" لوجود إنساني جديد يبدأ في هذا العالم ويستمر في العالم الآتي. هذا الوجود الإنساني الجديد يسميه الكتاب المقدس " الخليقة الجديدة في المسيح يسوع." هذا الحقائق والأحداث حتى وإن كنا لا نستطيع اثباتها تجريبياً، ولا توجد في خبرتنا الإنسانية أحداثاً مشابهة لها، إلا أن الكتاب المقدس يقدم لنا براهين منطقية أكثر مما يقدم أي دين أو كتاب آخر على صدق الأحداث التي يفترض حدوثها أو الأقوال التي ينسبها لله. ووا

أخيراً يقدم جاري كولينز ما يسميه الأدلة الإمبريقية التجريبية وكما يعرف كل باحث سواء في المجال النفسي أو غيره، أن مثل هذه الأدلة تأتي من الملاحظة الدقيقة للعالم والتحقق من هذه الملاحظات من خلال ملاحظات آخرين. أيضاً لا يقدم كولينز ما يشفي الغليل في هذا المجال، لكن فيليب يانسي في كتابه العثور على الله في أماكن غير متوقعة[16]. يكتب فصلاً كاملاً عن أبحاث تجريبية تشير إلى دور الله والروحانية في الشفاء عموماً. أولاً يقدم يانسي مجموعة من الملاحظات الإمبريقية التي وصل إليها الباحث ديفيد لارسون بعد خمسة عشر عاماً متصلة في البحث في هذا المجال:

- الحضور المنتظم للكنيسة يرتبط إحصائياً بطول العمر. التدين يقلل من معدل الإصابة بالأزمات القلبية وتصلب الشرايين وارتفاع ضغط الدم.

- الأشخاص المتدينون أقل تورطاً في إساءة استخدام الكحوليات وأقل كثيراً في معدلات تعاطي المخدرات. (وجدت دارسة أخرى أن 89 % من مدمني الكحول كانوا قد فقدوا اهتمامهم بالدين في مرحلة المراهقة).

- المساجين الذين يتخذون قراراً باتباع المسيح أثناء إقامتهم في السجن تقل معدلات عودتهم للسجن مرة أخرى عن نظرائهم.

- تزداد معدلات الرضا في الحياة الزوجية و تنخفض معدلات الإصابة بالاكتئاب مع ازدياد معدلات الانتظام في حضور الكنيسة

- الإلتزام الديني يقلل من معدلات الطلاق إلى النصف. (كثير من الأبحاث وجدت أن الطلاق له أضرار كبيرة على الصحة الجسدية والنفسية، لذا فإن الالتزام الديني بطريقة غير مباشرة يقلل من كل هذه ا لأضرار الصحّية).

بالإضافة لهذه الأبحاث توجد أيضاً الملاحظة الشهيرة التي كتبها كارل يونج:

" لقد عالجت عدة مئات من المرضى. كان أغلبهم من البروتستانت، وعدد أقل من اليهود وحوالي خمسة أوستة من الكاثوليك المؤمنين. يمكنني أن أقول بأمان أنهم كلهم مرضوا بسبب فقدانهم للنظرة الدينية للحياة. ولم يشف أي منهم إلا من استعادوا هذه النظرة. "

بعد هذا الفاصل الدفاعي عن الإيمان المسيحي و أهميته بالنسبة للشفاء النفسي (وللشفاء عموماً) نعود إلى نموذج جاري كولينز لإعادة بناء علم النفس على أسس روحية.

يبدأ هذا النموذج بافتراض أساسي وهو أن الله موجود وأنه هو مصدر كل حق. وأن هذا الحق معلن في الكتاب المقدس (الحقيقة المعلنة) و في الطبيعة ( الحقيقة المكتشفة). هذه الفرضية الأساسية تصاحبها فرضية فرعية وهي أن الإنسان أيضاً موجود وقادر على معرفة الحق.


هاتين الفرضيتان هما الأساس الذي يبني عليه المسيحيون، بحسب نموذج كولينز، ستة افتراضات فرعية وهي:

1) توسيع طرق الحصول على المعرفةExpanded Empiricism : أي أن المعرفة الصادقة لا تأتي فقط من خلال الأبحاث التجريبية الإمبريقية ولكن هناك مصادر أخرى للحقيقة مثل الاستنتاج المنطقي، أو دراسة العلوم الإنسانية مثل التاريخ أو الفلسفة أو الإعلان الكتابي أو حتى الحدس المباشر.

2) الجمع بين الحتمية والإرادة الحرة Determinism and Free will بالطبع يحمل هذا تناقضاً ظاهرياً Paradox لكن الكتاب المقدس يوضح كيف أن الاثنين معاً يصفان حالة الإنسان فالإنسان خاضع لحتمية وجوده الساقط الفاسد الذي يتنظر الخلاص الكامل في السماء[17] وهو في نفس وقت مخلوق حر قادر على الاختيار الحر عكس طبيعته الساقطة.

3) الحق الكتابي المطلق. Biblical Absolutism بالرغم من أن ذهن الإنسان المعاصر يميل إلى الإيمان بالنسبية، يبحث المسيحيون الإنجيليون المحافظون في الكتاب المقدس على مبادئ مطلقة تحكم الفكر والسلوك والعلاقات. مثل المحبة والغفران والموت عن الذات وغير ذلك. لكن هذا يثير مشكلة عندما نستخدم "الآيات الكتابية بصورة مطلقة" دون بذل مجهود لاهوتي. اللاهوت كما سبق وأشرنا هو محاولة تفسير الرموز الكتابية رموز الكتابية لكي تخرج لنا ما فيها من معاني مجرد مطلقة ثم نحاول تطبيق هذه المعاني على الثقافة المعاصرة.

4) التصغيرية المعدلة. Reductionism Modified التصغيرية ضرورة لفهم كائن مركب مثل الإنسان. لكن هذه التصغيرية لا يجب أن تمنعنا من رؤية الكل. بمعنى أن هذا النموذج يقبل دراسة السلوك الإنساني من مناظير مختلفة مثل السلوكية أو التحليلية أو الوجودية دون الإفراط في تصغير الإنسان ودون الاعتقاد بأن نظرية واحدة يمكن أن تقدم تفسيراً متكاملاً له ولسلوكه.

5) الفوقطبيعية المسيحية Christian Supernaturalism هذه الفرضية تقبل النظرة النفسية أن العالم به نظام طبيعي يحكمه ولكنها أيضاً تقبل أن هناك ما هو فوق هذا النظام الطبيعي. الفوقطبيعية المسيحية تؤمن أن الله خلق العالم و يحفظه بواسطة كلمته (الذي تجسد في المسيح) من خلال قوانين طبيعية. لكنها تؤمن أيضاً بوجود ما هو فوق طبيعي وتأثيره على الإنسان، ولهذا تداعياته المتعددة على فهم سلوك البشر ومساعدتهم للتغيير. الفوقطبيعية المسيحية تتميز عن أي إيمان فوق طبيعي بأنها لا تقبل ما هو ضد العقل، لكنها تقبل ما يتسامى فوق العقل. لا تقبل أحداث تتنافى مع المنطق العام لكنها يمكن أن تقبل أحداث أو تفسيرات لا يوجد تفسير لها في هذا العالم ، وإنما يخضع تفسيرها لقوانين العالم الروحي الأسمى. (راجع ملحق "ما جمعه الله لا يفرقه إنسان في كتاب "صحة العلاقات" ص. 214- 217)

6) المفهوم الكتابي للإنسان Biblical Anthropology

بعكس النظرة الإنسانية العلمانية التي تفترض الصلاح الإنساني المطلق، تفترض المسيحية أننا مخلوقون على صورة الله وفي نفس الوقت مخلوقات ساقطة ولكننا محبوبون من الله الذي دبر خلاصنا ورجوعنا إليه من خلال الإيمان بخطة فداءه من خلال المسيح، حتى أنه من يؤمن بالمسيح مخلصاً شخصياً ينال الولادة الثانية ويصبح خليقة جديدة في المسيح. هذه الخليقة الجديدة تصبح قادرة على استقبال مواهب روحية خاصة من الله هنا في هذه الحياة بالإضافة إلى ضمان الحياة الأبدية في السماء. ن أن

4) المرحلة الرابعة (الثمانينات وبعد ذلك )

أصبح مفهوم التكامل أكثر بعداً عن النماذج النظرية البسيطة. و أكثر تعاملاً مع التحديات العملية الحقيقية للوصول إلى صحة نفسية وروحية متكاملة. هذا ما سوف نتناوله في الفصل التالي.


[1] كلمة "عصابي" Neurotic تعني مرض نفسي يتميز أساساً بالقلق واستخدام سلوكيات و طرق تفكير بصورة مبالغ فيها لمقاومة هذا القلق مثل الوسواس القهري أو الرغبة في الكمال وغير ذلك.

[2] Ted Peters, God-The World’s Future. Systematic Theology for a New Era, (Minneapolis: Fortress Press), 2000, p. 36- 37

[3]G.R. Collins, Psychology and Theology. Prospects for Integration, (Nashville: Abingdon), 1981. p. 17

[4] أوسم وصفي، صحة العلاقات، تحدي الشفاء والنضوج في مجتمع حقيقي. (القاهرة: كنيسة قصر الدوبارة الإنجيلية) 2004

[5] G. R. Collins, The Rebuilding of Psychology, An Integration of Psychology and Christianity, (Wheaton, Illinois: Tyndale) 1977

[6] Psychoanalysis and Religion. N.Y:Bantam, 1950

[7] The Individual and His Religion, A Psychological Interpretation. N.Y:Macmillan, 1950

[8] What Then Is Man? A symposium of Theology, Psychology, and Psychiatry, Meehl, et al. 1958)

5 راجع ملحق " الروحانية والتوقفية" في كتاب صحة العلاقات للكاتب

[10] Gary R. Collins, The Rebuilding of Psychology, (Wheaton: Tyndale) 1977, p. 137 – 152

[11] Albert Ellis, “ The Advantages and Disadvantages of Self-Help Therapy Materials,” Professional Psychology: Research and Practice 24 (1993): 336.

[12] الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس 15: 13- 15

[13] إنجيل لوقا 24: 13- 27

[14] إنجيل مرقس 3: 21 و إنجيل يوحنا 7: 3- 5

[15] " فإني سلمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضاً: أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب (نبوات العهد القديم)، وأنه دفن، وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب، و أنه ظهر لصفا (بطرس) ثم الاثنى عشر، وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمسمئة أخ، أكثرهم باق إلى الآن. ولكن بعضهم رقدوا. وبعد ذلك ظهر ليعقوب، ثم للرسل أجمعين. " (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 15: 3-7)

[16] Philip Yancey, Finding God in Unexpected Places, (Colorado Springs: Waterbrook) 2005, p. 123- 127.

[17] " فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا (المجد السماوي). لأن انتظار الخليقة يتوقع استعلان أبناء الله. إذ أخضعت الخليقة للبُطل ـ ليس طوعاً بل من أجل الذي أخضعها ــ على الرجاء (الرجاء في الحياة الأخرى) لأن الخليقة نفسها أيضاً ستعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله. فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخض معاً إلى الآن. وليس هكذا فقط، بل نحن الذين لنا باكورة الروح (الذين أخذنا عربون بسيط من الأمجاد السماوية من خلال سكنى الروح وعمله فينا)، نحن أنفسنا نئن في أنفسنا متوقعين التبني فداء أجسادنا (أي الانعتاق من الوجود في هذا الجسد الفاسد).