Thursday, April 5, 2007

المدارس المعرفية السلوكية




الافتراضات الفلسفية

تبنى هذه المدارس على عدة افتراضات فلسفية محورية وهي:

1) المادّية Materialism لا تؤمن هذه المدارس بما بوجود ما يسمى العقل أو النفس ككيان فوق مادي وإنما تعتبر التفكير عملية مادية بحتة تحدث في المخ Antimentalism

2) التصغيرية Reductionism : لا توجد شخصية ككل متكامل وإنما الإنسان ما هو إلا مجموعة من الأنماط السلوكية والمعرفية

3) الحتمية Determinism: بمعنى أنه لا وجود لأية اختيارات أخلاقية في السلوك. وصف أحدهم أن مشكلة الإدمان مثلاً ليست سوى عادة تكونت من خلال الارتباط الشرطي مثلما يحدث مع "كلب بافلوف" ولا يوجد أي مجال لأي اختيار مسئول.

نموذج الشخصية

أ. التناول المعرفي الاجتماعي Social Cognitive Approach (Mischel and Bandura)

بالنسبة لمدارس العلاج المعرفية السلوكية، فقط Mischel (1973) هو الذي قدَّم نظرية شبه متكاملة عن الشخصية تتلخص في خمسة عناصر تختلف من شخص لآخر:

1) طرق الاستقبال: الكيفية التي يستقبل بها الشخص المعلومات الفكرية والحسّية المختلفة (بصرية أو سمعية أو خلافه).

2) طرق التفسير: الطرق التي بها يفسر هذه المدخلات ويكون منها نسق معرفي متكامل ومن ثم يسلك تجاهها سلوكاً خاصاً.

3) تقييم المثيرات: القيمة التي يضعها الشخص للمثيرات المختلفة وبالتالي كم الدافعية الناشئة من تلك المثيرات والسلوكيات الناتجة عنها.

4) الارتباط الشرطي: الثواب والعقاب يؤثر في السلوك ليس من خلال ارتباط شرطي ميكانيكي وإنما من خلال ارتباط معرفي يؤثر في الاختيار.

5) التنظيم الذاتي للسلوك: من خلال التذكر والتوقع واللغة ، نحن نختزن البيئة داخلنا، وبالتالي الأفكار التي نفكر فيها تؤثر في سلوكياتنا بنفس قوة المؤثرات الخارجية. إذاً، يمكن للإنسان أن يصنع لنفسه بنفسه نظاماً داخلياً للثواب والعقاب لكي يحفز نفسه.

تكلم باندورا على أهمية "النموذج" Modeling في العلاج السلوكي المعرفي. تكلم أيضاً على تنظيم النفس self-regulation والإحساس بالكفاءة الذاتية self-efficacy كعامل مؤثر في السلوك. ليست المكافأة الخارجية فقط هي الدافع للسلوك الإيجابي ولكن الإحساس بالكفاءة الداخلية يدفع الإنسان لأن يجرب سلوكاً جديداً. لذلك فبحسب باندورا يجب على المعالج ليس فقط أن يؤسس نظام من الإثابة الخارجية وإنما ينمي شعور المريض بالكفاءة الذاتية.

ب. العلاج السلوكي المعرفي Meichenbaum / Beck

* هناك ثلاث مراحل للعلاج:

أولاً: أن يصبح المريض واعياً بالأفكار التلقائية التي تنشأ داخله كرد فعل للمشكلة.

ثانياً: يحاول العميل والمعالج معاً إيجاد أفكار بديلة (جمل تقريرية جديدة خاصة بالنفس) Self-statements يمكن أن تحل مكان الأفكار المؤدية للمشكلات.

ثالثاً: يقوم الشخص بتغيير معتقداته المحورية core beliefs وطريقة تفكيره التي أدت إلى تكوين مثل هذه المعتقدات، ويبدأ في اختبار النتائج الإيجابية للمعتقدات الجديدة. من أمثلة الأفكار المحورية ما يلي:

- قيمة الإنسان هي فيما يفعل.

- يجب عليّ أن أنجح دائماً.

- يجب أن يكون الجميع راضين عني لكي أرضى عن نفسي.

- يجب أن أفعل كل ما يطلب مني.

- أنا أقل من الجميع.

- أنا غير قادر على مواجهة الآخرين ورفض ما يطلبونه مني.

- لن أستطيع أن أحتمل الصراع مع الآخرين.

يمكن تحدي الأفكار المشوهة باستخدام طرق لجمع المعلومات، ربما أخذ آراء آخرين أو أسئلة لها طابع مسحي أو شامل مثل:

- اكتب قائمة بصفاتك الإيجابية.

- اكتب قائمة بأشياء نجحت فيها خلال الستة أشهر الماضية.

- اجمع آراء 10 من زملائك في أدائك الوظيفي.

- اكتب قائمة بالأشخاص الذي تعتقد أنهم يحبونك.

يستخدم Beck أيضاً أساليب سلوكية مثل التدريب على توكيد الحقوق assertive training وغيرها.

نموذج الصحة والمرض النفسي

لا تقدم هذه المدرسة فكرة شاملة متكاملة عن الشخصية أو عن المرض أو الصحة النفسية وإنما تتبنى نظرة براجماتية للصحة النفسية فهي تفترض أن الصحة النفسية هي أمر تحدده الثوابت المجتمعية ويحدده الشخص بنفسه بما يحقق له الراحة النفسية والفعالية في المجتمع. يصف كثير من الدارسين توجه هذه المدرسة بأنه توجه "غير أخلاقي" بمعنى أنه لا يقدم مقياساً يخضع له الإنسان بقدر ما يصنع الإنسان نظامه لنفسه بما يحقق له أهدافه. بالتالي فإن نموذج العلاج النفسي يدور حول تقليل الأعراض كما أن العلاقة بين العميل والمعالج تتسم بأنها أقل شخصية من المدارس الأخرى مثل المدارس الديناميكية (وبالذات مدرسة العلاقة بالموضوع). من الدراسات المثيرة تلك الدراسة المقارنة[1] بين علاج 30 شخص بواسطة علاج ديناميكي قصير المدى و 32 شخص بواسطة العلاج المعرفي السلوكي والتي وجدت أن نجاح العلاج المعرفي يعتمد على أن المعالجون المعرفيون الجيدون يمتلكون نفس الدفء الشخصي والعلاقاتي والحساسية الوجدانية التي يطبقها المشيرون الديناميكيون الجيدون. هذا يشير كما تشير الكثير من الدراسات الآخرى إلى أن العلاقة الشخصية والتواصل الوجداني أمر أساسي في التغيير. من أخطار العلاج المعرفي أنه يركز على الجوانب المنطقية بطريقة قد تغري المعالج ألا يهتم بالجوانب الشخصية والوجدانية ويظل معتبراً نفسه معالجاً ناجحاً.

المعالج في هذه المدرسة يقوم بدور مُشخِّص (من يقوم بالتشخيص)، ومعلم و/أو مستشار تقني يقوم بتقييم العمليات الفكرية الخاطئة (اللاتوافقية) ويعمل مع العميل لوضع عمليات فكرية أكثر صحة وتوافقاً.

وصف أحدهم ثلاث أنواع أساسية للتدخلات العلاجية التي تقوم بها هذه المدرسة وهي:

  • التدريب على مهارات التأقلم مع المواقف الصعبة Coping skill training

على سبيل المثال: تدريب المدمنين على المواقف عالية الخطورة (على سبيل المثال مقابلة صديق يتعاطى)

  • إعادة التشكيل المعرفي Cognitive restructuring ، وذلك يركز على تعديل أنماط التفكير اللاتوافقية (على سبيل المثال تحدّي وتغيير أنماط مريضة مثل التفسير السلبي أو التعميم أو غير ذلك)
  • التدريب على حل المشكلات Problem-solving training وفيه يقوم الشخص بتوسيع قدراته العامّة على فهم وحل المشكلات الصعبة التي تواجهه في حياته. على سبيل المثال مواجهة المواقف الاجتماعية الصعبة أو الشخصيات الصعبة أو مهارات اتخاذ القرارات (كشف الأرباح والخسائر، الخ).

النقد المسيحي

الافتراضات الفلسفية

بطبعية الحال لا تتفق المسيحية مع الافتراضات الفلسفية العامّة لهذه المدرسة مثل المادية أو التصغيرية أو العلمانية بوصفها نظريات تخرج الله من معادلة الحياة الإنسانية وترفض أي تدخل فائق للطبيعة، كما أنها تجرد الإنسان من صفات مثل الحرية و العقلانية والقدرة على التقرير وهي صفات ممنوحة له من الله كمخلوق على صورة الله، كما تؤمن المسيحية. مدرسة العلاج السلوكي تتبنى نفس نطرية السلوكية behaviorism التي لا تقتنع بوجود ما يسمى العقل mind وتعتبر أن التفكير ما هو إلا عملية مادّية مؤسسة على علم الأعصاب وقوانين السببية المباشرة، أما المدراس المعرفية فتؤمن بالتفكير.

بالرغم من إيماننا بالحرية ورفضنا لكل أشكال الحتمية المادّية و بأن الإنسان مخلوق روحي، إلا أننا لا يجب أن ننسى أننا مازلنا في الجسد فلا نستطيع أن ندّعي أن اختياراتنا حرة تماماً. أي أننا كمسيحيين يجب أن نؤمن بمفهوم الحرية المحدودة. بمعنى أن يكون الموقف المسيحي وسطاً بين حتمية السلوكية والحرية المطلقة للمدارس الإنسانية والوجودية.

نموذج الشخصية والصحّة والمرض النفسي

تؤكد المدرسة المعرفية على أن ما نؤمن به له تأثير كبير على سلامة حالتنا من كل النواحي. هذا مفهوم يتفق تماماً مع المسيحية ولعله يعكس صدى ما يقوله العهد الجديد في فيلبي 4: 8-9 " أخيراً أيها الإخوة كل ما هو حق، كل ما هو جليل، كل ما هو عادل، كل ما هو طاهر، كل ما هو مُسرّ، كل ما صيته حسن، ن كانت فضيلة وإن كان مدح، ففي هذه افتكروا."

كما تتفق كل من المسيحية ومدرسة العلاج المعرفي السلوكي على أن أفكار الإنسان وسلوكياته يمكن تغييرها. ومن مسئوليات الإنسان أن يكون له وعي بنفسه ويفحص أفكاره ويصححها (مز 139: 23- 24). كما أن الكتاب يحثنا على ترك الأفكار الخاطئة (إشعياء 55: 7) ونسعى إلى تجديد أذهاننا (أفسس 4: 22- 25، ورمية 12: 1-2) هناك إذاً تشابه بين عملية "التقديس" والنمو الروحي وعملية العلاج المعرفي السلوكي، لكن الفرق الجوهري هو دور الله في هذه العملية. في رأيي أن هناك ثلاث عوامل يمكن إغفال أي منها لتحقيق النمو الصحي روحياً ونفسياً واجتماعياً وهي:

* اختبار نعمة الله بشكل مستمر في علاقة حية فعّالة مع الله المثلث الأقانيم، والانفتاح على التدخلات الإلهية الحرّة بجميع أنواعها التي تتعامل مع الفكر أو تخترق إلى الوعي متجاوزة الفكر أو حتى اللغة المفهومة.

* ديناميكيات الحياة المجتمعية وسط جماعة تؤمن بالنعمة والقبول وقيمة الإنسان غير المنحصرة في أداءه ، وفي نفس الوقت تشجع أفرادها على النمو والتغيير روحياً ونفسياً وسلوكياً.

* المجهود الفردي الذي يقوم به كل إنسان مع نفسه من فحص أفكاره واختبار مدى صحة هذه الأفكار والحديث إلى نفسه، والتدريب على مهارات التعامل مع المواقف وتغيير الأفكار والسلوكيات.

هناك كثير من المدارس النفسية والطوائف المسيحية تميل إلى التركيز على عنصر دون الآخر من هذه العناصر وهكذا يحدث عدم إتزان، يؤدي إلى حدوث تعطل أو ضعف في مسيرة النمو والتغيير بحيث تعود هذه المسيرة إلى سابق قوتها عندما تتم استعادة هذا الاتزان.

موقف المدرسة المعرفية السلوكية من المشاعر

هناك ميل من جانب هذه المدرسة أن تعتبر أن المشاعر هي مصدرضيق أو اضطراب، أو على الأقل مجرد نتيجة للأفكار وليست مصدر مهم للنمو والمعرفة يثري التجربة الإنسانية. تشترك بعض الدوائر المسيحية في هذا المفهوم، معتبرة أن المشاعر خطر ولا حاجة للتعامل معها، فقط على الإنسان أن يؤمن ويثق، والمشاعر سوف تتبع دون بذل المجهود في العمل على المشاعر نفسها من التعرف عليها والتعبير عنها والتحكم فيها.

موقف المدرسة المعرفية السلوكية من الإنسان

تنظر هذه المدرسة إلى أن الهدف الأساسي للإنسان هو مصلحته الشخصية وإن خرج من نفسه إلى شخص آخر فهو يفعل ذلك لأن هذا يؤدي إلى مصلحته أيضاً ولكن على المدى البعيد. يشترك اللاهوت المسيحي أيضاً في الإيمان بفساد الإنسان وسقوطه، وميله للأنانية والتمركز حول نفسه، إلا أنه يؤمن أيضاً بأن الإنسان بوصفه مخلوق على صورة الله، فهو قادر على استقبال الحب غير المشروط من الله واعطاءه للآخر ين. أي أن الإنسان يستطيع أن يتجاوز نفسه، وذلك فقط من خلال نعمة الله. الله يتعامل مع الإنسان بمنطق المحبة والقبول غير المشروطين، ولكنه يرى أيضاً أن الإنسان في فساده يحتاج إلى نوع من الثواب والعقاب لتحفيزه لذلك فإن هناك مجازاة في السماء على السلوكيات الإيجابية.

تهدف المدرسة السلوكية المعرفية إلى جعل الإنسان قادر على إدارة نفسه ومشاعره ويشعر بالكفاءة الذاتية. هذا المفهوم من الممكن أن يكون غير مقبول مسيحياً باعتباره ربما يؤدي للكبرياء، ولكن لا مانع من أن يستمتع الإنسان بكفاءته وقدراته دون أن يفقد إحساسه بالاعتماد المطلق على الله. نفس الوصية التي أعطاها الله لآدم هي يُخضع الأرض ويتسلط عليها دون أن ينسى اعتماده على الله عموماً نحن نحتاج لأن نعيش في هذا التوتر الديناميكي الخلاّق بين استخدام قدراتنا والاعتماد على الله.

نمط العلاج النفسي

لا تعكس مدرسة نفسية التوازن الكتابي بين الفكر والسلوك كما تعكسه المدرسة المعرفية السلوكية. في المزمور التاسع عشر يقول كاتب المزمور: " لتكن أقوال فمي و فكر قلبي، مرضية أمامك، يا رب صخرتي وولي." مزمور 19: 14. ليس غريباً إذاً أن نجد أن أسلوب كل من جاي آدمز ولاري كراب (المشورة الكتابية)، يعكسان توازياً مع التوجه المعرفي السلوكي في الكتاب المقدس. لكي يظل السؤال، لكن هل التوجه السلوكي المعرفي هو التوجه الكتابي الوحيد للتعامل مع الإنسان ومعاناته؟ هناك بالطبع التوجه العلاقاتي الذي يعتبر محورياً في نظرة الكتاب المقدس لاحتياجات ودعوة الإنسان.

بالرغم من القبول الكبير الذي تمتع به هذه المدرسة في الأوساط المسيحية، إلا أن هناك بعض المشكلات مع ذلك الأسلوب العلاجي:

1) عدم وجود بعد أخلاقي للعلاج بمعنى أن الهدف الوحيد هو تخفيف الأعراض مهما كان الأسلوب.

2) عدم وجود بعد نُمُّوي لهذه المدرسة، حيث لا يوجد فيها توجّه بّعدي أو غائي تهدف المدرسة الوصول إليه (مثل تحقيق الذات في المدرسة الوجودية، أو إقامة علاقات صحية جديدة في مدرسة العلاقة بالموضوع، أو غير ذلك) الهدف بالنسبة للمدرسة المعرفية السلوكية هو مجرد " الحياة بلا ألم أكثر من اللازم". وفي نفس الوقت، غياب هذا البعد العقائدي بالنسبة لهذه المدرسة، يجعلها سهلة التطويع لتوافق الرؤية المسيحية أكثر من غيرها من المدارس.


[1] Enrico. E. Jones, and Steven, M. Pulos, “ Comparing the Process in Psychodynamic and Cognitive-behavioral Therapies, “ Journal of Counseling and Clinical Psychology 61( 1993): 306- 316

No comments: